صالح العامري (جريدة عمان)
1-
أن تحب مدينة، هو أن تصادق طفولاتها، أن لا تبتلعك بمعنى سماويّ أو أسطوريّ ولا تجرفك في سيل حشودها وأبنيتها وطرقاتها المزدحمة، وأن تجعل بينك وبينها مسافة لكي تلعب وتتمطى وتتثاءب وتتمشّى وتنام وتستمريء فيها فعلاً أو كتابة أو قهوة أو فاكهة أو انتظاراً أو لحناً شارداً...
أن تحبّ مدينة، هو أن تُقصي التضخم والتورّم الذي تبدو عليه سائر المدن الغليظة، بنُصُبها ومسرحها الظاهريّ وثقل ضوضائها وتلوثها ووطأة أوضاعها الضاغطة. بل أن تتمشّى معك في قلبك، وأن تنفث جمالاتها في عُقَد مخاوفك وبلبلتك وفوضاك، فتنفتح رهافاتك وتغتبط طيورك التي كانت واقفة على الغصن، تنتظر إمّا الرحيل أو الغناء...
2-
مدينة كسلى، لكنّها تنهض مثل وخط عود الثقاب حين تمسّ ظهرها اللدن. مدينة تستحم في الحكايات والأقاصيص والأقوال المأثورة والكتب القديمة المتناثرة في الألسنة والصدور والأرصفة والبيوت المحتجبة في خدور الأسوار، لكنها تقوم في لحظة، لا تطيق فيها الصبر ولا التاريخ، بتقديم فاكهتها السحرية إلى فمك الذي يسيل لعابه الوحشيّ لمواهب المدينة وهِباتها وعسلها وقمحها... فاكهة آتية دون شكّ من "أشجار تحتشد عليها الملائكة. أشجار خفية يشذبها البستانيون ببطء، يشذبونها تشذيباً غريبا، يجعلها تُثمر لنا-مع أنّها ليست لنا- ما يشبه تلك الفواكه" كما قال ريلكه في سونيتاته...
3-
مدينة أمازونية مثقلة بوجوه المحاربين والمتعاركين وذوي السحنات اللاهبة، راياتها مضمرة في التراب والريح والشمس الحارقة، عساكرها يتحركون مثل ظلال آفلة ذاهبة لنصرة بلدان ممزقة، ظلال ترتعش تحرقاً للحن قديم أو قصيدة ضعضعتها المصائر...
4-
أسير خِلواً من نفسي، وأقول سأجدني بعد قليل في يد شحّاذ، أو عين مجنون، أو حقيبة مسافر، أو بصقة ناقم على القبح، أو في وجه حفيدة من أحفاد المعتمد بن عبّاد. أسير وأنا أحسد الزمن على مكره وغلبته، ومع ذلك فلا أعضّ على معنى، إلا أن يبتسم طفل قبالتي فتنكشف خديعة الحياة. أسير وأنا أتلفتُ مرة واحدة فحسب إلى الوراء؛ لكي أحرضني على المضيّ قدماً نحو الشجرة... أسيرُ نحو مصابيح الفانين لكي أجول في اللهب، ولكي لا أتحسّر على أنّي لم أسر ولم أتحرّك...كلّ شيء يوحي لي هُنا أنني على موعد مع الفاكهة، مع النبع، مع الحكمة العارية من قمصانها، مع البُرج المرتكز على جناح الطائر...
5-
ما جدوى تلك المدن الخرساء التي تدّعي أنها تُحييكَ في النهار ثمّ تقتلك في الليل؟ ما جدوى تلك المدن التي تصهل في وجهك بمكائدها في منتصف الليل وتدكّك بعارها وشنارها في عزّ الظهيرة؟...تلك المدن الحاقدة التي نقم عليها نصيّف الناصري (لأنّ تهمته فيها كانت شعره الطويل!)، وحوّلت قبضة يده إلى تمساح يسعى لإلية جنرالها اللئيم...
أخبريني يا مرّاكش عن سيرة المدن؟ بللي حلقي بالمعرفة يا عزيزتي، وأسلسي طريقي نحو "هبة الله" التي سألاقيها بعد قليل في حديقة ماجوريل..
6-
حلمتُ أنّ الجميلة ستأتي في القطار، وأنني حال ما أراها سأقدّم لها باقة ورود اشتريتها من باعة الزهور في جيليز. وها هي تأتي هذا اليوم، وأنا أغذ السير إلى المحطة، حاملاً في يدي ما أمرتني به الأحلام...ماذا تريد الأحلام أن تقول لي؟ هل تعرّفني على سذاجاتي ونقصانات عقلي؟ هل تتوخّى أن تنبّهني إلى الواجبات التي أهملها أو أتناساها؟ هل تريد أن تصوّب لي طريقي نحو الإنسانيّة الحقّة؟ هل تريد أن تنفض عن كاهلي سُخام الحَرَج التافه الذي اندلق عليّ من أمراضي القديمة؟...هل كنتُ سأبدو وحشاً لو استقبلتُ الجميلة من رحلتها القطارية الطويلة دون أيّة زهور؟ هل كنت سأبدو في أسفار أشعياء وصحائف موسى: يهوذا القادم، لتتقيّح الخطيئة؟...
7-
تداهمني الصباحات الباكرة وأنا ما أزال أنشب أظافري في سرّ الليل..لا أريد أن ينتهي أي شيء..لا أريد أن أتطاير، وأن يتبّخر الزمن..
ما أزال أتدحرج في برميل الفجر، وأحسّ أنّ العصابة التي عقدتها على جبيني ما تزال تشعرني بالزهو...تبتسم لي حفيدة المعتمد بن عبّاد، وتحمحم إلى جانبي فرس يوسف بن تاشفين...وأنا أمضي إلى الضحك، إلى الضحك، إلى الضحك...دون أن يكون بمستطاعي لملمة العلائق الثلاثية: الابتسامة والفرس والضحك...
حدث من قبل أن تعثرتُ بظلّي، لكنني هذه المرّة أتعثر بالشمس وبأضوائها التي تلعق أصابع يديّ وقدميّ...
أطَمْئنُ أشباح وأطياف وظلال المدينة الطيبة بـ "دروع النشوة"، و"لـلله يا الشمعة" الطويلة، وبالفواكه التي تتلألأ في صدور الجميلات، وبكلّ الهيبيين الأحرار في العالم، ساخراً من السياسة وربابنتها الحمقى وأشلاء الأمكنة القذرة...
وأنخر مثل حصان جافل من العقل والسؤدد،
والعين تشكّ حدائقها الغابرة،
والإبرة ترفو شمسها المقدّسة
1-
أن تحب مدينة، هو أن تصادق طفولاتها، أن لا تبتلعك بمعنى سماويّ أو أسطوريّ ولا تجرفك في سيل حشودها وأبنيتها وطرقاتها المزدحمة، وأن تجعل بينك وبينها مسافة لكي تلعب وتتمطى وتتثاءب وتتمشّى وتنام وتستمريء فيها فعلاً أو كتابة أو قهوة أو فاكهة أو انتظاراً أو لحناً شارداً...
أن تحبّ مدينة، هو أن تُقصي التضخم والتورّم الذي تبدو عليه سائر المدن الغليظة، بنُصُبها ومسرحها الظاهريّ وثقل ضوضائها وتلوثها ووطأة أوضاعها الضاغطة. بل أن تتمشّى معك في قلبك، وأن تنفث جمالاتها في عُقَد مخاوفك وبلبلتك وفوضاك، فتنفتح رهافاتك وتغتبط طيورك التي كانت واقفة على الغصن، تنتظر إمّا الرحيل أو الغناء...
2-
مدينة كسلى، لكنّها تنهض مثل وخط عود الثقاب حين تمسّ ظهرها اللدن. مدينة تستحم في الحكايات والأقاصيص والأقوال المأثورة والكتب القديمة المتناثرة في الألسنة والصدور والأرصفة والبيوت المحتجبة في خدور الأسوار، لكنها تقوم في لحظة، لا تطيق فيها الصبر ولا التاريخ، بتقديم فاكهتها السحرية إلى فمك الذي يسيل لعابه الوحشيّ لمواهب المدينة وهِباتها وعسلها وقمحها... فاكهة آتية دون شكّ من "أشجار تحتشد عليها الملائكة. أشجار خفية يشذبها البستانيون ببطء، يشذبونها تشذيباً غريبا، يجعلها تُثمر لنا-مع أنّها ليست لنا- ما يشبه تلك الفواكه" كما قال ريلكه في سونيتاته...
3-
مدينة أمازونية مثقلة بوجوه المحاربين والمتعاركين وذوي السحنات اللاهبة، راياتها مضمرة في التراب والريح والشمس الحارقة، عساكرها يتحركون مثل ظلال آفلة ذاهبة لنصرة بلدان ممزقة، ظلال ترتعش تحرقاً للحن قديم أو قصيدة ضعضعتها المصائر...
4-
أسير خِلواً من نفسي، وأقول سأجدني بعد قليل في يد شحّاذ، أو عين مجنون، أو حقيبة مسافر، أو بصقة ناقم على القبح، أو في وجه حفيدة من أحفاد المعتمد بن عبّاد. أسير وأنا أحسد الزمن على مكره وغلبته، ومع ذلك فلا أعضّ على معنى، إلا أن يبتسم طفل قبالتي فتنكشف خديعة الحياة. أسير وأنا أتلفتُ مرة واحدة فحسب إلى الوراء؛ لكي أحرضني على المضيّ قدماً نحو الشجرة... أسيرُ نحو مصابيح الفانين لكي أجول في اللهب، ولكي لا أتحسّر على أنّي لم أسر ولم أتحرّك...كلّ شيء يوحي لي هُنا أنني على موعد مع الفاكهة، مع النبع، مع الحكمة العارية من قمصانها، مع البُرج المرتكز على جناح الطائر...
5-
ما جدوى تلك المدن الخرساء التي تدّعي أنها تُحييكَ في النهار ثمّ تقتلك في الليل؟ ما جدوى تلك المدن التي تصهل في وجهك بمكائدها في منتصف الليل وتدكّك بعارها وشنارها في عزّ الظهيرة؟...تلك المدن الحاقدة التي نقم عليها نصيّف الناصري (لأنّ تهمته فيها كانت شعره الطويل!)، وحوّلت قبضة يده إلى تمساح يسعى لإلية جنرالها اللئيم...
أخبريني يا مرّاكش عن سيرة المدن؟ بللي حلقي بالمعرفة يا عزيزتي، وأسلسي طريقي نحو "هبة الله" التي سألاقيها بعد قليل في حديقة ماجوريل..
6-
حلمتُ أنّ الجميلة ستأتي في القطار، وأنني حال ما أراها سأقدّم لها باقة ورود اشتريتها من باعة الزهور في جيليز. وها هي تأتي هذا اليوم، وأنا أغذ السير إلى المحطة، حاملاً في يدي ما أمرتني به الأحلام...ماذا تريد الأحلام أن تقول لي؟ هل تعرّفني على سذاجاتي ونقصانات عقلي؟ هل تتوخّى أن تنبّهني إلى الواجبات التي أهملها أو أتناساها؟ هل تريد أن تصوّب لي طريقي نحو الإنسانيّة الحقّة؟ هل تريد أن تنفض عن كاهلي سُخام الحَرَج التافه الذي اندلق عليّ من أمراضي القديمة؟...هل كنتُ سأبدو وحشاً لو استقبلتُ الجميلة من رحلتها القطارية الطويلة دون أيّة زهور؟ هل كنت سأبدو في أسفار أشعياء وصحائف موسى: يهوذا القادم، لتتقيّح الخطيئة؟...
7-
تداهمني الصباحات الباكرة وأنا ما أزال أنشب أظافري في سرّ الليل..لا أريد أن ينتهي أي شيء..لا أريد أن أتطاير، وأن يتبّخر الزمن..
ما أزال أتدحرج في برميل الفجر، وأحسّ أنّ العصابة التي عقدتها على جبيني ما تزال تشعرني بالزهو...تبتسم لي حفيدة المعتمد بن عبّاد، وتحمحم إلى جانبي فرس يوسف بن تاشفين...وأنا أمضي إلى الضحك، إلى الضحك، إلى الضحك...دون أن يكون بمستطاعي لملمة العلائق الثلاثية: الابتسامة والفرس والضحك...
حدث من قبل أن تعثرتُ بظلّي، لكنني هذه المرّة أتعثر بالشمس وبأضوائها التي تلعق أصابع يديّ وقدميّ...
أطَمْئنُ أشباح وأطياف وظلال المدينة الطيبة بـ "دروع النشوة"، و"لـلله يا الشمعة" الطويلة، وبالفواكه التي تتلألأ في صدور الجميلات، وبكلّ الهيبيين الأحرار في العالم، ساخراً من السياسة وربابنتها الحمقى وأشلاء الأمكنة القذرة...
وأنخر مثل حصان جافل من العقل والسؤدد،
والعين تشكّ حدائقها الغابرة،
والإبرة ترفو شمسها المقدّسة