بقلم: عبد الصمد الكباص
حرارة مراكش تشتعل، إسفلت الشوارع لزج، وأشعة الشمس حارقة تبسط جبروتها على الأشياء والناس، الظلال ثمينة ونادرة، والأجساد منهكة تلتهم وقت يومها في تباطؤ، والحواس تميل إلى الكسل، إنه نهار صيفي خانق، درجة الحرارة تتجاوز فيه الأربعة والأربعين بالمدين
أفاعي ساحة جامع الفنا متكاسلة بدورها، لاشيء يوقظها من كسلها حتى عزف مروضيها، الحياة تدب بفتور في الدروب التي تؤثثها الكراسي التي يعتمرها بعض السكان الباحثين عن نسيم شارد بين الأزقة الضيقة، " الصابات" المرشوشة بالمياه تخفف من وطأة الحر، أبواب بعض البيوت فيها مفتوحة تطل منها عيون نسوة وأطفال وشيوخ مسنين يتلمسون سبيل هواء منعش، قلت " خوابي" المياه الباردة التي كانت في السابق تحفل بها دروب وطرقات مراكش مصحوبة بكؤوس طينية مزينة بالقطران لري عطش المارة مجانا، من يداهمه العطش اليوم عليه أن يستأنس بنقود جيبه للحصول على قنينة ماء معدني•
في الأسواق التقليدية يكتظ زوار المدينة، غواية المعروضات تجلبهم بصرامة، و كذلك الظلال التي تنشرها السقوف التي تساير رغبة الناس في الفوز بهدنة مؤقتة مع قساوة الحر•
هكذا هو نهار مراكش الصيفي، ليس للناس فيه خيار سوى التفاوض مع فظاظة حره في فضاءات يقل تنوعها، الحدائق تكاد تكون مهجورة لأن أشجارها تعجز عن صد أشعة الشمس الحارقة، المقاهي المستلقية على ضفاف الشوارع تكتظ بمرتاديها الذين يجدون فيها ملاذا آمنا لتمضية وقت ينسحب بتباطؤ في هذا الفصل القائظ، الأفواه تردد العبارات ذاتها التي دأبت على قولها عند مجيء كل صيف: " هذه السنة الحرارة أكثر شدة من سابقتها••
"بعض الزوار يلوذ بنفسه في اتجاه منتجع اوريكا الجبلي، المياه المتدفقة في الوادي والأشجار الوارفة الخضرة و الظل و الجو اللطيف الموسوم بهواء ناعم و بارد يفتح شهية نهمه للاستجمام، البعض الآخر يفعل نفس الشيء بإمليل، لكن حزمة كبيرة من السكان ليس بإمكانها ذلك، خارج السور العتيق تزداد محنة الصيف قساوة، بالطبع في أحياء البسطاء حيث تمتد الأعمدة الاسمنتية التي تأوي سلالات بشرية هائلة في حيز يزداد ضيقا، الجدران التي تنغلق على أمتار قليلة ترسم معالم هذه المحنة، من النوافذ يمتد الضيق خانقا مجال الرؤية، ليس أمام العين سوى طرقات تضيق بشاحناتها وحافلاتها وسياراتها والتلوث يتلبس بالهواء الساخن الذي يخنق الأنفاس•
في السنوات الماضية كان لأطفال مراكش العتيقة فرحتهم الخاصة بالصيف• مسبح الكتبية أقصد• فيه نسجت أجيال متعاقبة ذكريات جميلة مع الحر و عقدت صداقات أليفة مع هذا الفصل• اليوم أغلق في وجوههم المسبح الوحيد المتاح لسكان المدينة العتيقة، فأغلقت معه منابع فرحة حقيقية وذكريات منسابة لطفولة ليس أمامها سوى الجري في الأزقة الضيقة و الانتظار•• تغيب الشمس ولا تغيب الحرارة، الليل ينشر ظلامه على المدينة، تمتلئ الشوارع والطرقات بالناس، الحر يطرد سكان مراكش من بيوتهم ليلا، الدروب تضخ أعدادا هائلة من البشر في مختلف الاتجاهات، ساحة جامع الفنا تفيض بالأجساد التائهة بين أدخنة المأكولات وضجيج المهرجين والموسيقى•
لا يترك السكان مساحة فارغة ولو ببضعة أمتار حتى يستوطنوها ليلا• من كان يصدق أن يتحول ذلك الفضاء الضئيل المقابل لمستودع الأموات بباب دكالة إلى ملجأ يزدحم فيه سكان الحارة وبوطويل لقضاء ليلهم؟! بسيدي يوسف بن علي يمتص فضاء " الواحة" رغبة الناس في الإفلات من قبضة الحر التي تتفاقم ليلا، الأسر تجاور بعضها في فضاء مفتوح، متعة الحكي تنساب بين الكبار وغواية اللعب تأسر الصغار•كل شيء يبدو منطلقا إلى ساعات متأخرة من الليل حيث تأذن العودة إلى البيوت لبداية معاناة جديدة مع الحرارة• الأمر نفسه بشارع محمد السادس، البحر والاصطياف ليس متاحا للجميع•
في مراكش يخلق الناس شواطئهم بلا رمال ولا أمواج• في الامتداد الجديد للشارع تصطف السيارات على طوله ذهابا وإيابا والدراجات النارية تنتصب إلى جانب أصحابها سواء في الشريط الذي يتوسطه أم على جنباته• تصحب الأسر معها أغطية وأفرشة وأطعمة شهية• كذلك العشاق يصحبون بعضهم إلى الشارع• وقرب النافورات ينتشر الأطفال الذين يشاغبون الضفادع التي تملأ الفضاء بنقيقها•
إنها شواطئ الصيف المراكشي، يبتكرها السكان للتحايل على قساوة الحر تارة على وعسر إمكانياتهم تارة أخرى أو من أجل قطف لحظات ممتعة وجميلة من المتاح•• بذلك تبقى مراكش حلما لدى ساكنتها وزوارها• قريبا ستكون كما القاهرة مدينة لا تنام•
حرارة مراكش تشتعل، إسفلت الشوارع لزج، وأشعة الشمس حارقة تبسط جبروتها على الأشياء والناس، الظلال ثمينة ونادرة، والأجساد منهكة تلتهم وقت يومها في تباطؤ، والحواس تميل إلى الكسل، إنه نهار صيفي خانق، درجة الحرارة تتجاوز فيه الأربعة والأربعين بالمدين
أفاعي ساحة جامع الفنا متكاسلة بدورها، لاشيء يوقظها من كسلها حتى عزف مروضيها، الحياة تدب بفتور في الدروب التي تؤثثها الكراسي التي يعتمرها بعض السكان الباحثين عن نسيم شارد بين الأزقة الضيقة، " الصابات" المرشوشة بالمياه تخفف من وطأة الحر، أبواب بعض البيوت فيها مفتوحة تطل منها عيون نسوة وأطفال وشيوخ مسنين يتلمسون سبيل هواء منعش، قلت " خوابي" المياه الباردة التي كانت في السابق تحفل بها دروب وطرقات مراكش مصحوبة بكؤوس طينية مزينة بالقطران لري عطش المارة مجانا، من يداهمه العطش اليوم عليه أن يستأنس بنقود جيبه للحصول على قنينة ماء معدني•
في الأسواق التقليدية يكتظ زوار المدينة، غواية المعروضات تجلبهم بصرامة، و كذلك الظلال التي تنشرها السقوف التي تساير رغبة الناس في الفوز بهدنة مؤقتة مع قساوة الحر•
هكذا هو نهار مراكش الصيفي، ليس للناس فيه خيار سوى التفاوض مع فظاظة حره في فضاءات يقل تنوعها، الحدائق تكاد تكون مهجورة لأن أشجارها تعجز عن صد أشعة الشمس الحارقة، المقاهي المستلقية على ضفاف الشوارع تكتظ بمرتاديها الذين يجدون فيها ملاذا آمنا لتمضية وقت ينسحب بتباطؤ في هذا الفصل القائظ، الأفواه تردد العبارات ذاتها التي دأبت على قولها عند مجيء كل صيف: " هذه السنة الحرارة أكثر شدة من سابقتها••
"بعض الزوار يلوذ بنفسه في اتجاه منتجع اوريكا الجبلي، المياه المتدفقة في الوادي والأشجار الوارفة الخضرة و الظل و الجو اللطيف الموسوم بهواء ناعم و بارد يفتح شهية نهمه للاستجمام، البعض الآخر يفعل نفس الشيء بإمليل، لكن حزمة كبيرة من السكان ليس بإمكانها ذلك، خارج السور العتيق تزداد محنة الصيف قساوة، بالطبع في أحياء البسطاء حيث تمتد الأعمدة الاسمنتية التي تأوي سلالات بشرية هائلة في حيز يزداد ضيقا، الجدران التي تنغلق على أمتار قليلة ترسم معالم هذه المحنة، من النوافذ يمتد الضيق خانقا مجال الرؤية، ليس أمام العين سوى طرقات تضيق بشاحناتها وحافلاتها وسياراتها والتلوث يتلبس بالهواء الساخن الذي يخنق الأنفاس•
في السنوات الماضية كان لأطفال مراكش العتيقة فرحتهم الخاصة بالصيف• مسبح الكتبية أقصد• فيه نسجت أجيال متعاقبة ذكريات جميلة مع الحر و عقدت صداقات أليفة مع هذا الفصل• اليوم أغلق في وجوههم المسبح الوحيد المتاح لسكان المدينة العتيقة، فأغلقت معه منابع فرحة حقيقية وذكريات منسابة لطفولة ليس أمامها سوى الجري في الأزقة الضيقة و الانتظار•• تغيب الشمس ولا تغيب الحرارة، الليل ينشر ظلامه على المدينة، تمتلئ الشوارع والطرقات بالناس، الحر يطرد سكان مراكش من بيوتهم ليلا، الدروب تضخ أعدادا هائلة من البشر في مختلف الاتجاهات، ساحة جامع الفنا تفيض بالأجساد التائهة بين أدخنة المأكولات وضجيج المهرجين والموسيقى•
لا يترك السكان مساحة فارغة ولو ببضعة أمتار حتى يستوطنوها ليلا• من كان يصدق أن يتحول ذلك الفضاء الضئيل المقابل لمستودع الأموات بباب دكالة إلى ملجأ يزدحم فيه سكان الحارة وبوطويل لقضاء ليلهم؟! بسيدي يوسف بن علي يمتص فضاء " الواحة" رغبة الناس في الإفلات من قبضة الحر التي تتفاقم ليلا، الأسر تجاور بعضها في فضاء مفتوح، متعة الحكي تنساب بين الكبار وغواية اللعب تأسر الصغار•كل شيء يبدو منطلقا إلى ساعات متأخرة من الليل حيث تأذن العودة إلى البيوت لبداية معاناة جديدة مع الحرارة• الأمر نفسه بشارع محمد السادس، البحر والاصطياف ليس متاحا للجميع•
في مراكش يخلق الناس شواطئهم بلا رمال ولا أمواج• في الامتداد الجديد للشارع تصطف السيارات على طوله ذهابا وإيابا والدراجات النارية تنتصب إلى جانب أصحابها سواء في الشريط الذي يتوسطه أم على جنباته• تصحب الأسر معها أغطية وأفرشة وأطعمة شهية• كذلك العشاق يصحبون بعضهم إلى الشارع• وقرب النافورات ينتشر الأطفال الذين يشاغبون الضفادع التي تملأ الفضاء بنقيقها•
إنها شواطئ الصيف المراكشي، يبتكرها السكان للتحايل على قساوة الحر تارة على وعسر إمكانياتهم تارة أخرى أو من أجل قطف لحظات ممتعة وجميلة من المتاح•• بذلك تبقى مراكش حلما لدى ساكنتها وزوارها• قريبا ستكون كما القاهرة مدينة لا تنام•