أنثولوجيا مراكش في نظرة الآخر
مراكش مدينة بربرية· طابعها وجوها يشيان أنها كانت في الأصل مخيم رحَّل، مركزا تجاريا، معرضا دائما للرجال الوافدين من الأطلس ومن الصحراء···
ورغم موقعها في سهول عطرة، فهي تنتمي للأطلس الذي تحضر قممه ذات البياض الشبحي في كل مكان، فوق أسوارها الحمراء وحدائق نخيلها· وهي تنتمي للصحراء التي يتواجد رُسلها (جمال، رجال زرق، طوارق ورحل آخرون يكسوهم الغبار) حيثما رحلت وارتحلت بالمدينة، ويشعرون أنهم في عقر دارهم بأسواقها· مراكش ـ باختصار ـ واحة أكثر مما هي مدينة، ورغم أنها لاتقع داخل الصحراء، فهي تنتمي إليها···
بزغت الأسوار الحمراء لمراكش، وسط حدائق النخيل، أول مرة، في عام 1062، محيطة بمخيم رحل لحصن· لقد شيدها يوسف بن تاشفين، الذي وفدت قبيلته، على صهوة الجياد والجمال، من جنوب الصحراء، وأطلقت على نفسها اسم المرابطين (المحاربون المدافعون عن الإيمان)··· كان يوسف بن تاشفين رجلا تقيا ومحاربا، عاش حتى بلغ سن السادسة وتسعين وانتهى به الأمر إلى السيطرة على المغرب برمته· قاد عدة حملات في اسبانيا، هزم جيش ألفونس السادس في باداخوز، ثم خلع مختلف الأمراء العرب المنحطين· فتح غرناطة رفرفت رايته على مجموع مناطق اسبانيا المسلمة· في ظل حكم المرابطين، الذي أسسه يوسف بن تاشفين، وصلت الامبراطورية البربرية أوجها الأول، إذ، وخلال مرحلة زمنية لاتتجاوز عمر جيل واحد، تحولت جدران الوحل الجاف المحيطة بمخيم الرحل القديم إلى أسوار لعاصمة الامبراطورية· أطلق يوسف بن تاشفين على نفسه لقب أمير المسلمين، وهو لقب جد قريب من ذلك الذي يحمله الخليفة أمير المؤمنين· هكذا أضحت مراكش بغداد الغرب، لتضاهي مدينة هارون الرشيد بهاء وارتشاء·لكن، وبينما تبدد مجد بغداد بسبب المغول والأتراك والمهندسين المعماريين الطلائعيين، ظلت أسوار مراكش تحتضن الحلم بالعودة إلى الماضي، حلم يهيمن على الواحد منا وهو يحتسي كأس شاي منعنع···
إذا كنت أبدو كمن يكرر نفسه بالحديث مرارا عن هذا اللون الأحمر، فالسبب يكمن في استحالة أي بديل آخر· إنه أولى إحساس يغمرنا حين تدنو الطائرة من المدينة، وهو إحساس لايتبخر بعد مغادرتها، مولدا رغبة نوستالجية في العودة، تمتد المدينة في قلب سهل خصب يسمى بلاد الحمرا، تؤثثه حدائق النخيل والزيتون، وبساتين البرتقال وكل أنواع أشجار الفواكه، إلى حدود أولى خاصرة للأطلس الذي لايبعد سوى بحوالي عشرين كيلومترا· تكسو السهل شبكة من قنوات السقي، تحاذي أسيجة من الصبار أو الأوكالبتوس، مشكلة ما يشبه تخريما سائلا· وسط هذا الفردوس الافريقي، تنتصب الأسوار السميكة بفظاظة نحو السماء، مسيجة المدينة خلف خط مُتعرج يبدو مثل رسم مقرَّن تم إنجازه بعفوية· يتجاوز طول الأسوار خمسة عشرة كيلومترا، تخترقها عشر أبواب ذات تقوسات خلابة ونقوش باذخة··· لقد انهارت بعض جنبات الأسوار، بينما تم إغلاق الثغرات هنا وهناك أو إعادة البناء· عدة مرات، لكن هذا لايكتسي أدنى أهمية، بسبب الحفاظ على الخط المنكسر للرسم الرائع الذي وضعه أعضاء قبيلة ابن تاشفين حول معسكرهم، كما ظل لونه هو نفسه، رغم أن الألوان لاتبقى أبدا على حالها· اللون هذا يتغير بين ساعة وأخرى· لينتقل من الوردي إلى البرتغالي، إلى القرمزي ثم الأصفر، حسب الجو وساعات اليوم· ولا يولد هذا الوضع إحساسا عاما باستمرارية في زحم زمن ساكن، بل شعورا بغياب الزمن وبالتلف البطيء· تتهاوى الأسوار مثل أشجار تتساقط أوراقها·
تبدو الأحياء العصرية، التي شيدت إبان فترة الحماية، متجانسة بشكل مثير مع صبغة بقية المعمار، والأمر يشبه المعجزة، بالنسبة لمن شهد التخريب الذي طال المدن العتيقة عبر العالم· ربما انشده المعماريون الفرنسيون بغواية المكان، ولذا وظفوا نفس المواد الحمراء لبناء مقرات المؤسسات العمومية، التخطيطات المستطيلة، المكعبات الجميلة، الأقواس العربية، الأعمدة النحيفة والبريجات التي نصادفها في مساجد المدينة العتيقة أو في قصبات الأطلس· فيلات الضواحي نفسها تعكس ذات الإحساس العام بالانسجام· ثمة شوارع فسيحة على امتداد خط مستقيم، يُزين جنباتها النخيل، ومنها شارع محمد الخامس (جادة الإليزي المراكشية) الذي يتجاوز طوله ثلاثة كيلومترات، تتقاطع الشوارع هذه في مفترقات طرق تزيدها النافورات بهاء، خاصة وأن اكتظاظ السيارات لم يشوهها بعد· كم سيدوم هذا الوضع السعيد؟ إنها قصة أخرى، إذ نلاحظ، منذ الآن، ورشا أو ورشين ببناء جديديين يثيران التقزز حتى تحت أشعة الشمس الافريقية· لكن، وإلى يومنا هذا، مازالت ثلاثية الألوان (الأزرق/السماء، الأخضر/النخيل)، والأحمر/الأسوار) تهيمن على المشهد···
الكتبية هي برج إيفل مراكش، ويعرف كل أطفال شوارع المدينة أن طولها يصل إلى 67 مترا، وأن قمتها تحضن ثلاثة أجراس نحاسية، وهي الأجراس التي يُحكى أنها كانت من ذهب في زمن سابق· ورغم صيتها الذائع، فصومعة الكتبية لا تترك أثرا عميقا لدى المتفرج عليها· لقد شيدت من طرف عبيد مسيحيين إبان حكم الموحدين الذين خلفوا المرابطين، على أنقاض قصر كبير بناه هؤلاء···
كان أحمد معاصرا للملكة إليزابيث، وقد فتح السودان وجلب منه كميات هائلة من الذهب وأعدادا كبيرة من العبيد، ليوظف غنائمه في تشييد قصر البديع· وحدها الأسوار تظل قائمة اليوم، شاهدة على فساحة القصر، وهي تشكل ما يشبه متاهة وردية تحيط بساحة داخلية، بحجم ساحة الأسلحة، كان مئات الفرسان يقدمون بها ألعاب الفروسية، دُمِّر البديع، بمفردها الأضرحة الملكية للسعديين تُذكر بها حاليا···
رسميا، ظلت مراكش إحدى عواصم الإمبراطورية المغربية الأربعة، لكن مقر السلطة كان يوجد تارة في مكناس، وأحيانا في فاس، ومرات أخرى في الرباط···
تبخرت السلطة والمجد، لكن الطابع المحلي والتقاليد لم تتعرض للإقبار، وبالنسبة لأناس الأسواق البسطاء، فإن الحياة بطريقة لامتشنجة تبدو أزلية· حافظت مراكش على وضعها كفضاء فرجة للأطلس والصحراء· أما مركز الاحتفاءات الفرجوية، فهو ساحة شاسعة ومتربة، ذات تفرعات متشعبة ومتداخلة، ومساحة تفوق مساحة عدة ملاعب لكرة القدم: إنه جامع الفنا الشهير··· فيما مضى من الزمن، كانت رؤوس الثوار ضد السلطة المركزية والمجرمين تقطع هنا، لتعرض بعد وضعها على عصي في محيط الساحة·
أجل، جامع الفنا أكبر فضاء فرجوي يجلب السواح، في افريقيا الغربية برمتها· ورغم ذلك، فأغلبية الوافدين عليه تتكون، مثلما كان عليه الأمر زمن مخيم الرحل الأصلي، من رجال القبائل والرعاة والفلاحين والحرفيين، القادمين من صحاري وجبال الداخل·
إنهم يستعملون الحمير أو الدراجات أو الحافلات للحلول بالساحة، ملتفين بملابسهم التقليدية، ليعرضوا سلعهم للبيع (سلع من كل الأصناف: بلح أو زرابي أو إبل···) ويتمتعون بالفرجة وبعرس جامع الفنا الذي لاينتهي· هم يأتون ذلك بشكل هادئ وحالم، يتحلقون حول حاكي أو مروض ثعابين، حول كاتب عمومي أو منجم، حول ممثل أو موسيقي، ثم يتركونه في اتجاه فرجة مغايرة· ثمة دائما حلقة مقربة من الفنان، تتكون أساسا من أطفال وعجزة يجلسون القرفصاء، وبعدها حلقة خارجية لايمكث بها المتفرجون كثيرا، لكنها صامتة مثل الأولى، ولا مجال فيها للازدحام···
إذا كانت ساحة جامع الفنا على شكل أخطبوط، فإن الأسواق هي أذرعها، كيلومترات من الأسواق، كيلومترات متشابكة ومتشعبة من الروائح والألوان والجلبة الصاخبة والازدحام، وسط الحمير والدراجات الهوائية والنارية والعربات المجرورة· لقد قضيت حوالي أربع سنوات في الشرق الأوسط، لكنني عجزت دائما عن فهم ما يهب الحياة للأسواق (···)·
نُشر هذا النص سنة 1971 وهو مترجم بتصرف عن أنثولوجيا المغرب في نظرة الآخر للكاتب أرثور كوستلير / ترجمة: سعيد عاهد
مراكش مدينة بربرية· طابعها وجوها يشيان أنها كانت في الأصل مخيم رحَّل، مركزا تجاريا، معرضا دائما للرجال الوافدين من الأطلس ومن الصحراء···
ورغم موقعها في سهول عطرة، فهي تنتمي للأطلس الذي تحضر قممه ذات البياض الشبحي في كل مكان، فوق أسوارها الحمراء وحدائق نخيلها· وهي تنتمي للصحراء التي يتواجد رُسلها (جمال، رجال زرق، طوارق ورحل آخرون يكسوهم الغبار) حيثما رحلت وارتحلت بالمدينة، ويشعرون أنهم في عقر دارهم بأسواقها· مراكش ـ باختصار ـ واحة أكثر مما هي مدينة، ورغم أنها لاتقع داخل الصحراء، فهي تنتمي إليها···
بزغت الأسوار الحمراء لمراكش، وسط حدائق النخيل، أول مرة، في عام 1062، محيطة بمخيم رحل لحصن· لقد شيدها يوسف بن تاشفين، الذي وفدت قبيلته، على صهوة الجياد والجمال، من جنوب الصحراء، وأطلقت على نفسها اسم المرابطين (المحاربون المدافعون عن الإيمان)··· كان يوسف بن تاشفين رجلا تقيا ومحاربا، عاش حتى بلغ سن السادسة وتسعين وانتهى به الأمر إلى السيطرة على المغرب برمته· قاد عدة حملات في اسبانيا، هزم جيش ألفونس السادس في باداخوز، ثم خلع مختلف الأمراء العرب المنحطين· فتح غرناطة رفرفت رايته على مجموع مناطق اسبانيا المسلمة· في ظل حكم المرابطين، الذي أسسه يوسف بن تاشفين، وصلت الامبراطورية البربرية أوجها الأول، إذ، وخلال مرحلة زمنية لاتتجاوز عمر جيل واحد، تحولت جدران الوحل الجاف المحيطة بمخيم الرحل القديم إلى أسوار لعاصمة الامبراطورية· أطلق يوسف بن تاشفين على نفسه لقب أمير المسلمين، وهو لقب جد قريب من ذلك الذي يحمله الخليفة أمير المؤمنين· هكذا أضحت مراكش بغداد الغرب، لتضاهي مدينة هارون الرشيد بهاء وارتشاء·لكن، وبينما تبدد مجد بغداد بسبب المغول والأتراك والمهندسين المعماريين الطلائعيين، ظلت أسوار مراكش تحتضن الحلم بالعودة إلى الماضي، حلم يهيمن على الواحد منا وهو يحتسي كأس شاي منعنع···
إذا كنت أبدو كمن يكرر نفسه بالحديث مرارا عن هذا اللون الأحمر، فالسبب يكمن في استحالة أي بديل آخر· إنه أولى إحساس يغمرنا حين تدنو الطائرة من المدينة، وهو إحساس لايتبخر بعد مغادرتها، مولدا رغبة نوستالجية في العودة، تمتد المدينة في قلب سهل خصب يسمى بلاد الحمرا، تؤثثه حدائق النخيل والزيتون، وبساتين البرتقال وكل أنواع أشجار الفواكه، إلى حدود أولى خاصرة للأطلس الذي لايبعد سوى بحوالي عشرين كيلومترا· تكسو السهل شبكة من قنوات السقي، تحاذي أسيجة من الصبار أو الأوكالبتوس، مشكلة ما يشبه تخريما سائلا· وسط هذا الفردوس الافريقي، تنتصب الأسوار السميكة بفظاظة نحو السماء، مسيجة المدينة خلف خط مُتعرج يبدو مثل رسم مقرَّن تم إنجازه بعفوية· يتجاوز طول الأسوار خمسة عشرة كيلومترا، تخترقها عشر أبواب ذات تقوسات خلابة ونقوش باذخة··· لقد انهارت بعض جنبات الأسوار، بينما تم إغلاق الثغرات هنا وهناك أو إعادة البناء· عدة مرات، لكن هذا لايكتسي أدنى أهمية، بسبب الحفاظ على الخط المنكسر للرسم الرائع الذي وضعه أعضاء قبيلة ابن تاشفين حول معسكرهم، كما ظل لونه هو نفسه، رغم أن الألوان لاتبقى أبدا على حالها· اللون هذا يتغير بين ساعة وأخرى· لينتقل من الوردي إلى البرتغالي، إلى القرمزي ثم الأصفر، حسب الجو وساعات اليوم· ولا يولد هذا الوضع إحساسا عاما باستمرارية في زحم زمن ساكن، بل شعورا بغياب الزمن وبالتلف البطيء· تتهاوى الأسوار مثل أشجار تتساقط أوراقها·
تبدو الأحياء العصرية، التي شيدت إبان فترة الحماية، متجانسة بشكل مثير مع صبغة بقية المعمار، والأمر يشبه المعجزة، بالنسبة لمن شهد التخريب الذي طال المدن العتيقة عبر العالم· ربما انشده المعماريون الفرنسيون بغواية المكان، ولذا وظفوا نفس المواد الحمراء لبناء مقرات المؤسسات العمومية، التخطيطات المستطيلة، المكعبات الجميلة، الأقواس العربية، الأعمدة النحيفة والبريجات التي نصادفها في مساجد المدينة العتيقة أو في قصبات الأطلس· فيلات الضواحي نفسها تعكس ذات الإحساس العام بالانسجام· ثمة شوارع فسيحة على امتداد خط مستقيم، يُزين جنباتها النخيل، ومنها شارع محمد الخامس (جادة الإليزي المراكشية) الذي يتجاوز طوله ثلاثة كيلومترات، تتقاطع الشوارع هذه في مفترقات طرق تزيدها النافورات بهاء، خاصة وأن اكتظاظ السيارات لم يشوهها بعد· كم سيدوم هذا الوضع السعيد؟ إنها قصة أخرى، إذ نلاحظ، منذ الآن، ورشا أو ورشين ببناء جديديين يثيران التقزز حتى تحت أشعة الشمس الافريقية· لكن، وإلى يومنا هذا، مازالت ثلاثية الألوان (الأزرق/السماء، الأخضر/النخيل)، والأحمر/الأسوار) تهيمن على المشهد···
الكتبية هي برج إيفل مراكش، ويعرف كل أطفال شوارع المدينة أن طولها يصل إلى 67 مترا، وأن قمتها تحضن ثلاثة أجراس نحاسية، وهي الأجراس التي يُحكى أنها كانت من ذهب في زمن سابق· ورغم صيتها الذائع، فصومعة الكتبية لا تترك أثرا عميقا لدى المتفرج عليها· لقد شيدت من طرف عبيد مسيحيين إبان حكم الموحدين الذين خلفوا المرابطين، على أنقاض قصر كبير بناه هؤلاء···
كان أحمد معاصرا للملكة إليزابيث، وقد فتح السودان وجلب منه كميات هائلة من الذهب وأعدادا كبيرة من العبيد، ليوظف غنائمه في تشييد قصر البديع· وحدها الأسوار تظل قائمة اليوم، شاهدة على فساحة القصر، وهي تشكل ما يشبه متاهة وردية تحيط بساحة داخلية، بحجم ساحة الأسلحة، كان مئات الفرسان يقدمون بها ألعاب الفروسية، دُمِّر البديع، بمفردها الأضرحة الملكية للسعديين تُذكر بها حاليا···
رسميا، ظلت مراكش إحدى عواصم الإمبراطورية المغربية الأربعة، لكن مقر السلطة كان يوجد تارة في مكناس، وأحيانا في فاس، ومرات أخرى في الرباط···
تبخرت السلطة والمجد، لكن الطابع المحلي والتقاليد لم تتعرض للإقبار، وبالنسبة لأناس الأسواق البسطاء، فإن الحياة بطريقة لامتشنجة تبدو أزلية· حافظت مراكش على وضعها كفضاء فرجة للأطلس والصحراء· أما مركز الاحتفاءات الفرجوية، فهو ساحة شاسعة ومتربة، ذات تفرعات متشعبة ومتداخلة، ومساحة تفوق مساحة عدة ملاعب لكرة القدم: إنه جامع الفنا الشهير··· فيما مضى من الزمن، كانت رؤوس الثوار ضد السلطة المركزية والمجرمين تقطع هنا، لتعرض بعد وضعها على عصي في محيط الساحة·
أجل، جامع الفنا أكبر فضاء فرجوي يجلب السواح، في افريقيا الغربية برمتها· ورغم ذلك، فأغلبية الوافدين عليه تتكون، مثلما كان عليه الأمر زمن مخيم الرحل الأصلي، من رجال القبائل والرعاة والفلاحين والحرفيين، القادمين من صحاري وجبال الداخل·
إنهم يستعملون الحمير أو الدراجات أو الحافلات للحلول بالساحة، ملتفين بملابسهم التقليدية، ليعرضوا سلعهم للبيع (سلع من كل الأصناف: بلح أو زرابي أو إبل···) ويتمتعون بالفرجة وبعرس جامع الفنا الذي لاينتهي· هم يأتون ذلك بشكل هادئ وحالم، يتحلقون حول حاكي أو مروض ثعابين، حول كاتب عمومي أو منجم، حول ممثل أو موسيقي، ثم يتركونه في اتجاه فرجة مغايرة· ثمة دائما حلقة مقربة من الفنان، تتكون أساسا من أطفال وعجزة يجلسون القرفصاء، وبعدها حلقة خارجية لايمكث بها المتفرجون كثيرا، لكنها صامتة مثل الأولى، ولا مجال فيها للازدحام···
إذا كانت ساحة جامع الفنا على شكل أخطبوط، فإن الأسواق هي أذرعها، كيلومترات من الأسواق، كيلومترات متشابكة ومتشعبة من الروائح والألوان والجلبة الصاخبة والازدحام، وسط الحمير والدراجات الهوائية والنارية والعربات المجرورة· لقد قضيت حوالي أربع سنوات في الشرق الأوسط، لكنني عجزت دائما عن فهم ما يهب الحياة للأسواق (···)·
نُشر هذا النص سنة 1971 وهو مترجم بتصرف عن أنثولوجيا المغرب في نظرة الآخر للكاتب أرثور كوستلير / ترجمة: سعيد عاهد