خلفت نهضة الطب بالغرب الإسلامي خلال هذا العصر مؤلفات عدة في مختلف المباحث العامة لهذا العلم، وتخصصاته الفرعية؛ كما خلدت بعض المصادر مظاهر التميز والريادة، في تنظيم الخدمات الصحية والاجتماعية بتلك الدولة، وفي طليعتها مستشفى مراكش الذي اختط بنيانه الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور (580-595 ﻫ)، وهو ما عرف آنئذ باسم بيمارستان مراكش ؛ بيد أن صاحب كتاب "الاستبصار"، المعاصر للمنصور الموحدي، ولزاما لتاريخ بناء المنشأة الصحية المذكورة، يسميها "دار الفرج" . أما عبد الواحد المراكشي، صاحب الرواية التاريخية المفصلة عن بناء بيمارستان مراكش، والذي عاصر إحداثه، بصفته مراكشي المولد والدار، كما كان قريب الصلة من أحد أمراء الأسرة الحاكمة، فإنه لم يكن يظن - حسب عبارته-وجود مستشفى يضاهي تلك المعلمة الصحية الفريدة التي دوّن أخبارها في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب"؛ وذلك على الرغم من طول غربة المؤلف وزيارته للأندلس وبلدان المشرق العربي، واستقراره ببغداد، حيث ألقى عصا الترحال، ومع كل تلك التجربة المفترضة فيه على كثرة ما عاينه من عجائب الأمصار ومستطرفاتها. ولا غرو أن شهادته كانت صادقة، بالنظر إلى ما حصّله المستشفى المذكور من سعة وتنظيم محكم، ومنشآت أخرى ملحقة به، إلى جانب ما أسداه من خدمات صحية واجتماعية جليلة. ولعل تعبير المراكشي عن انبهاره بتلك المعلمة، أبلغ من أن يحاكى في وصفها، حيث يقول في سياق حديثه عن مناقب الخليفة يعقوب المنصور: "وبنى بمدينة مراكش بيمارستانا ما أظن أن في الدنيا مثله؛ وذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه؛ فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح؛ وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياها كثيرة تدور على جميع البيوت ، زيادة على أربع برك في وسطه، إحداها رخام أبيض، ثم أمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره، بما يزيد على الوصف ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة، خارجا عمّا جلب إليه من الأدوية وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدّ فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم، من جهاز الصيف والشتاء؛ فإذا نقه المريض فإن كان فقيرا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنيا دفع إليه ماله وترك وسببه؛ ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت؛ وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت أهل بيت، يقول: كيف حالكم؟ وكيف القومة عليكم؟ إلى غير ذلك من السؤال، ثم يخرج؛ لم يزل مستمرا على هذا إلى أن مات رحمه الله" . ومن خلال تحليل هذا النص الأصيل في بابه، يمكن استخلاص مظاهر الرقي الحضاري خلال عصر الموحدين، وبَدْءًا على عَوَد، يشير المراكشي إلى إشراف السلطة السياسية العليا في الدولة على بناء المستشفى، ممثلة في شخص الخليفة نفسه؛ ويستنتج من النص أن اختيار المكان المناسب لبناء هذه المنشأة استند إلى معايير صحية دقيقة، ولاشك أنه استعان في تحديده بذوي الخبرة من أهل النظر في الطب، من أجل انتقائه "بأعدل موضع في البلد"، على حد عبارة المؤرخ المراكشي؛ كما حرص المنصور على إتقان بنائه، واستنبات الأشجار المثمرة والأزهار والورود، مع وفرة المياه ودورانها عبر القنوات إلى جميع مرافق المستشفى. ومن أطرف إبداعات الموحدين في باب العناية بالمرضى، أنهم انتقوا أفرشة نفيسة من الصوف والكتان والحرير والجلد، وبالإضافة إلى ما أعدّ للمرضى من ألبسة للنوم وأخرى للنهار، وتغييرها حسب فصول السنة، لتوفير إقامة هنيئة لهم، خصصت إعانة مادية للفقراء من المرضى بعد نقاهتهم، حتى يتمكنوا من الانخراط في حياتهم خارج المستشفى دون صعوبات؛ كما أعفي ذوو اليسار من نفقات الاستشفاء، ودفعت إليهم أموالهم التي دخلوا بها أول الأمر. وقد خصصت الدولة ميزانية قارة لتحضير الأطعمة لغذائهم، علاوة على الأموال المرصودة لصنع الأدوية على اختلاف أشكالها من أشربة وأدهان وأكحال. وتفيد المصادر بوجود "خزانة للأشربة" الخاصة بالخليفة، كان الطبيب الصيدلي أبو يحيى بن قاسم الإشبيلي أحد المشرفين عليها، كما تولى أبوه هذا المنصب قبله. وبعد وفاته، خلفه بدوره ابنه على القيام بأمر هذه الخزانة ؛ وتجدر الإشارة إلى بلوغ علم الصيدلة خلال هذا العصر مبلغا سابقا لأوانه، بحيث تشير بعض المصادر إلى وجود ما يشبه مختبرات خاصة بالتجارب على بعض الحيوانات . والجدير بالتنويه أن هذه المنشأة الصحية فتحت أبوابها أمام الغرباء والمنقطعين؛ كما حظيت بعناية فائقة، تمثلت في تخصيص الخليفة موعدا أسبوعيا لزياتها عقب كل صلاة جمعة، مستفسرا عن أحوال المرضى وجودة الخدمات الطبية التي يستفيدون منها، فيما يشبه الاستقصاء والتحري عن مستوى أداء القيمين على المستشفى لأعمالهم. وقد سجل العلامة محمد المنوني بعض المؤاخذات على رواية المراكشي، وتتمثل أبرزها في كونه لم يعرج على تبيان التنظيم الداخلي للمشفى، إذ لم يذكر التقسيمات التخصصية التي ضمها ـ شأن باقي البيمارستانات في المشرق العربي ـ كما أنه أغفل ذكر الأطباء الذين تعاقبوا على رئاسة بيمارستان مراكش ؛ وهي ملاحظات استدركها عليه المنوني اعتمادا على رواية ابن أبي زرع الفاسي ، ومضمونها أن البيمارستانات التي بناها المنصور كانت تستقبل المرضى على اختلاف عللهم، بما في ذلك المختلّين عقليا. كما أشار إلى أحد رؤساء هذه المؤسسة الصحية، وكان يطلق عليه لقب "أمين البيمارستان"، وهو أبو إسحاق إبراهيم الداني البجائي الأصل؛ وبدوره أورد المؤرخ إبراهيم حركات اسم أحد الذين تولوا هذا المنصب وهو أبو جعفر الذهبي . وبصرف النظر عن تلك الملاحظات السابقة، فإن في مضامين رواية المراكشي ما يدل على السبق الحضاري الذي حققه الغرب الإسلامي خلال عصر الموحدين على المستويين العلمي والاجتماعي؛ ولا غرو أن يخلص أحد المؤرخين الغربيين ـ عن طريق مقارنة بيمارستان مراكش بمستشفيات باريس في بداية القرن العشرين ـ إلى القول إن الأول تفوق على نظيراته الأوروبية، من حيث جودة خدماته . فضلا عن مقارنته بمستشفيات أوربا في العصور الوسطى، التي فصلها بون شاسع عن اللحاق بمستوى البيمارستان المراكشي
المصدر: عبد السلام الحسين الجعماطي أستاذ وباحث في تاريخ الغرب الإسلامي وحضارته
موقع بريد تطوان