معرض «الجنينة الأندلسية» يحوّل المسرح الملكي إلى حديقة
احتضنته مراكش ليشكل قنطرة ثقافية بين عالمين
زوار المعرض يتجولون في بهو «المسرح الملكي» في مراكش («الشرق الأوسط»)
مراكش: عبد الكبير الميناوي
تحوّل المسرح الملكي في مدينة مراكش المغربية، أخيراً، إلى حديقة أندلسية، وهو يستقبل معرض «الجنينة الأندلسية»، الذي تنظمه «مؤسسة الثقافة الإسلامية» و«ديوان الكتبية» تحت رعاية العاهل المغربي الملك محمد السادس.
وقبل أن يحل بـ«المدينة الحمراء»، سبق للمعرض، الذي يستمر حتى التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، أن جال إسبانيا في حدائقها ومدنها، قبل أن ينتقل إلى مدينة حلب السورية، ومدن مغربية مثل مكناس وفاس وتطوان والصّويرة والجديدة والرباط والدار البيضاء بالمغرب. وفي كل محطة عربية أو مغربية توقف فيها المعرض تحوّل برأي كثيرين إلى «مفتاح حضارة أحبّت الطبيعة، واحترمت بيئتها»، فاتحاً في الوقت نفسه «باباً لاكتشاف مفاتيح مستقبل أحسن لبيئة أكثر إنسانية وأكثر اعتدالاً».
يرأس هذه المؤسسة الإسبانية الباحث المغربي شريف عبد الرحمن جاه، الذي يقول عنها إنها «منظمة غير حكومية ذات طابع ثقافي، مكرّسة للبحوث ونشر الحضارة الإسلامية وقيمها في الغرب»، وأن الهدف من ورائها هو «إنماء الحوار بين الشعوب عن طريق الثقافة وتعريف جمهور الأوروبيين بمنجزات الإسلام وإسهاماته الكبيرة، ومقارعة العنصرية، وكره الأجانب وأي شكل من أشكال الرفض، عبر المعرفة والتعليم حيث الجهل أكبر حليف للخوف والرفض المتبادل» ويتابع «في الواقع، لا يرفض الناس إلا ما يجهلونه، كنوع من أنواع الدفاع عن النفس، بيد أنه عندما ننقل عن الإسلام رؤية إيجابية وعميقة وذات طابع إنساني، يضمحل الارتياب وينبعث الفهم والتفاهم. إن القيم الكبرى تجتاز حدود الثقافات وتخدم البشر جميعاً على السواء».
وبهذا المعنى تصبح للمؤسسة، بحسب شريف عبد الرحمن «وظيفة» القنطرة الثقافية بين عالمين مع تقديم «رؤية تخصّصية صاغتها تربية تقليدية، تماماً، في الثقافة الإسلامية». وفي الوقت نفسه «رؤية مرنة وعصرية عن هذه الثقافة، تنسجم مع العقلية الغربية، وقادرة على استخدام لغة صحيحة لتحقيق قدر أكبر من الفهم»، الشيء الذي يتيح للمعرض «إعادة رسم صورة أندلس فيحاء تميّزت بحضارة عشقت الطبيعة ومازجت بين عناصرها المختلفة، وأبدعت فيها بما أمكن للإنسان الأندلسي، في ذلك الزمان، بلوغه وتطويره من معارف علمية وزراعية وإيكولوجية وهندسية رفيعة». وهو أمر يوفّر أكثر من فائدة من وراء زيارته. فهو يذكر بالأندلس والأثر الجميل الذي خلفه المسلمون وراءهم، كما يمنح الزائر فرصة التعرف على معطيات تتعلق بالحدائق وكل ما يرتبط بتقنيات الرّي والبستنة، كما أبدعها عرب ومسلمو الأندلس. وكما في كل المعارض السابقة، حرص المنظمون على تأكيد أن المعرض لا يسعى إلى إثارة شجون الماضي المرتبط بالوجود العربي الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية، والحكايات المحزنة المرتبطة بطردهم منها.
في مدخل بناية المسرح الملكي، التي تحتضن المعرض، تستقبلك أشجار الزيتون والرمان والبرتقال وغيرها. وفي البهو تنتصب لوحات عملاقة تحمل صوراً لبنايات تاريخية وحدائق، مرفقة ببيانات توضيحية، فضلاً عن مجسمات مصغرة لأنظمة الري وتقنيات البستنة الأندلسية، وصناديق زجاجية للعطور الرفيعة التي اشتقها الأندلسيون من رحيق النباتات. وإلى وسط البهو، يمكن للزائر أن يستمتع بمضمون أشرطة تنقله إلى عالم الأندلس الأخضر، عبر شاشات صغيرة وضعت خصيصاً لهذا الغرض، وفي الجانب الأيمن من البناية انخرطت مجموعة موسيقية في إمتاع الزوار بوصلات من روائع الموسيقى الأندلسية.
ودفعاً لتهمة التذكير بـ«الجرح» الأندلسي، يشدّد المنظمون على أن المعرض يتوخى عرض البستان الإسلامي بوصفه «مساحة للالتقاء والتعايش وبوتقة حضارية بلورت أسلوباً خاصاً للمناظر الطبيعية، وتأقلمت فيها أنواع نباتية متنوعة ومجهولة، حتى ذلك الحين». ومن المعروف أن الأندلسيين استقدموا الشغف بالجنائن والبساتين من المشرق، وكان نموذجهم المرجعي الأول هو الحديقة الفارسية الأصل، بممراتها الواسعة وقنواتها وينابيعها، إلى جانب عناصر معينة من الثقافة الرومانية، وأنشأوا نمطاً خاصاً بهم، نما وتطور، مع تتابع القرون. وتميّزت تلك الفترة بما سُمي «الباحة المربعة» المفروشة بمشاتل منخفضة المستوى تتوسطها بركة أو بحيرة مركزية. وظهرت، كذلك، مساحات الحدائق وجنائن بديعة في البساتين المخصصة للراحة والاستجمام. وتشبّعت بلدان الضفة المتوسطية بهذه الثقافة، التي تستحسن الخضرة والصوت المريح للماء والهدوء الذي ينبعث من المساحات الخضراء. ويرى كثيرون أن المغرب يعد الوريث المباشر لهذا التراث الفني الأندلسي.
وداخل المعرض، وقبل الوصول إلى لوحة تحمل عنوان «الجنينة الشعرية»، نتوقف عند أبيات شعرية للشاعر الأندلسي ابن خفاجة، يخاطب فيها أهل الأندلس، يقول فيها:
«يا أهل أندلس، لله درّكم ماءٌ وظلٌّ وأنهارٌ وأشجارُ ما جَنّة الخُلد إلا في دياركم ولو تخيّرتُ هذا كنتُ أختار لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقراً فليس تُدخلُ بعد الجنةِ النارُ».
وجاء في إحدى اللوحات، أن العالم الإسلامي اتسم بشغف واضح بالطبيعة، لم يتجلّ في زراعة الكثير من الجنائن والبساتين حول المدن الأندلسية فحسب، بل انعكس كذلك، في رغبة التمتع بمناظرها، وبالرفاه الذي يبعثه القرب منها. ولذا اعتاد المجتمع في كل أنحاء العالم المسلم، منذ النصف الثاني من القرن العاشر للميلاد، الخروج إلى ضواحي المدن للتمتع بالطبيعة. وكان مشهد المجموعات العائلية التي تتناول الطعام على ضفاف الأنهر في أجواء الاحتفالات الشعبية شائعاً في تلك الأوقات.
وفي لوحة أخرى، نكون مع «جنة عدن»، كما روي عنها في الكتب المقدسة، وهي التي تنطبق على «الجنة الأولى في العالم الإسلامي»، التي خلق الله (عز وجل) فيها آدم.
وبصدد الجنان الأندلسية، تقول إحدى اللوحات، إن عدداً من المؤرخين يذهبون إلى أن أقدم الجنان الأندلسية الداخلية، هي المعروفة باسم «باحة البرتقال» في المسجد الجامع بقرطبة، الذي شرع في بنائه في القرن الثامن الميلادي، في حين تعود «حديقة النافورات» الموجودة في حصن مالقة، إلى القرن التاسع للميلاد. وفي سرقسطة، توجد «جنينة قصر الجعفرية»، التي يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر. وفي فترة الموحدين، بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، نجد «باحة الجصّ» في «قصر المبارك» بإشبيلية. ومن بين أروع الحدائق الأندلسية القديمة التي ما زالت ماثلة أمامنا، «جنة العريف» و«قصر الحمراء» في غرناطة.
وفي لوحة أخرى، نكون مع عنوان «الخرافات السحرية» وعلاقتها بالزراعة في العالم العربي والإسلامي. وعلى الرغم من أن تيارات الفكر الإسلامي لم تتقبل تلك المعتقدات والخرافات تماماً، فإن الزراعة الشعبية، غالباً، ما تبنتها وطبقتها. ومن هذه المعتقدات، نقرأ أنه «في حالة وجود شجرة لا تمنح ثماراً يجب على صاحب المزرعة أن يقترب منها حاملا فأساً، بصحبة صديق له، ويقول له بصوت مسموع إنه عازم على قطع الشجرة لأنها عقيمة. وينبغي للصديق أن يقنع المزارع بالعدول عن فكرته ويدع تلك الشجرة تعيش عاماً آخر، حتى تعطي ثماراً كثيرة في العام الموالي».
وفي لوحة أخرى، نكون مع استخدام الماء في البساتين والأملاك الكبيرة، تقول إن العالم العربي انبثق في بيئة قاحلة، ولذلك فإن أول الشعوب التي كونته ـ أي العرب ـ تثمن الماء وتعتبره كنزاً أصيلاً نظراً إلى حاجتها إليه. إلا أن أهم إشارات إلى أهمية الماء، واعتباره أصل الحياة بكل مظاهرها وأنواعها وردت في القرآن الكريم، حيث جاء في الآية 63 من سورة «الحج»: «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتُصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير(63)». أو الآيتين 10 و11 من سورة «النحل»، حيث نقرأ: «هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شرابٌ ومنه شجرٌ فيه تُسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11)».
وبصدد «الجنينة البستان»، نقرأ أنه، في عالم الأندلس، كان للحدائق والجنان وظيفة أوسع بكثير من الدور الجمالي المحض، حيث كان البستان معرضاً للنباتات العطرية وأشجار الفاكهة والغلات البستانية، توحّدت فيه متعتا النظر والشم، مع الرغبة في الاستغلال الزراعي، مما أدى إلى اعتماد توزيع رشيد للماء وتطوير معرفة علمية بأقلمة الأنواع النباتية الجديدة. وهو ما يقود إلى «نظم توزيع الماء»، حيث يأتي التأكيد على أن الماء يعتبر في العالم الإسلامي هبة سماوية، وليس ملكاً موقوفاً للبشر، الذين ليسوا سوى حافظين للوديعة، ولذلك فإن من واجبهم توزيعها بالعدل على من يحتاج إليها. وقد أفاد هذا المفهوم، في الأندلس، في إقامة نظام متقن للرّي. وفي هذا السياق، نتوقف لدى التجول داخل المعرض عند لوحتين تعرفان بـ«النواعير المائية» و«السواقي» الأندلسية، فنكون مع مجسمات لـ«ناعورة الكابيو»، و«الموارد المائية في الأندلس»، و«معاصر قصب السكر»، و«مكيال الحبوب»، و«المكفر»، وهي أداة لعزق التربة وتنظيفها من الأعشاب البرية، و«المد». كما نكون مع تعريفات لليمون والكمّون والزنجبيل والخزامى والإكليل، وشتى أنواع الأزهار، مثل الخيري والزنبق والنرجس.
المنظمون يرون في المعرض جزءاً من مشروع ثقافي طموح ترعاه «مؤسسة الثقافة الإسلامية» لغرض تقديم «رؤية متوازنة وموضوعية عن الإسلام، وإطلاع الجمهور على الدور الإيجابي الذي لعبه الإسلام داخل بعض المجتمعات الأوروبية». مع تأكيد أن هذا الجانب من التصالح مع التاريخ يبدو في غاية الأهمية، سواء بالنسبة للعرب الذين فقدوا الأندلس بعدما عمروها طيلة سبعة قرون، أو بالنسبة للأسبان، الذين خاصموا تلك الحقبة، حتى أن أجزاء كثيرة من التاريخ الذي يدرس للنشء يقفز عليها متجاهلاً إياها
احتضنته مراكش ليشكل قنطرة ثقافية بين عالمين
زوار المعرض يتجولون في بهو «المسرح الملكي» في مراكش («الشرق الأوسط»)
مراكش: عبد الكبير الميناوي
تحوّل المسرح الملكي في مدينة مراكش المغربية، أخيراً، إلى حديقة أندلسية، وهو يستقبل معرض «الجنينة الأندلسية»، الذي تنظمه «مؤسسة الثقافة الإسلامية» و«ديوان الكتبية» تحت رعاية العاهل المغربي الملك محمد السادس.
وقبل أن يحل بـ«المدينة الحمراء»، سبق للمعرض، الذي يستمر حتى التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، أن جال إسبانيا في حدائقها ومدنها، قبل أن ينتقل إلى مدينة حلب السورية، ومدن مغربية مثل مكناس وفاس وتطوان والصّويرة والجديدة والرباط والدار البيضاء بالمغرب. وفي كل محطة عربية أو مغربية توقف فيها المعرض تحوّل برأي كثيرين إلى «مفتاح حضارة أحبّت الطبيعة، واحترمت بيئتها»، فاتحاً في الوقت نفسه «باباً لاكتشاف مفاتيح مستقبل أحسن لبيئة أكثر إنسانية وأكثر اعتدالاً».
يرأس هذه المؤسسة الإسبانية الباحث المغربي شريف عبد الرحمن جاه، الذي يقول عنها إنها «منظمة غير حكومية ذات طابع ثقافي، مكرّسة للبحوث ونشر الحضارة الإسلامية وقيمها في الغرب»، وأن الهدف من ورائها هو «إنماء الحوار بين الشعوب عن طريق الثقافة وتعريف جمهور الأوروبيين بمنجزات الإسلام وإسهاماته الكبيرة، ومقارعة العنصرية، وكره الأجانب وأي شكل من أشكال الرفض، عبر المعرفة والتعليم حيث الجهل أكبر حليف للخوف والرفض المتبادل» ويتابع «في الواقع، لا يرفض الناس إلا ما يجهلونه، كنوع من أنواع الدفاع عن النفس، بيد أنه عندما ننقل عن الإسلام رؤية إيجابية وعميقة وذات طابع إنساني، يضمحل الارتياب وينبعث الفهم والتفاهم. إن القيم الكبرى تجتاز حدود الثقافات وتخدم البشر جميعاً على السواء».
وبهذا المعنى تصبح للمؤسسة، بحسب شريف عبد الرحمن «وظيفة» القنطرة الثقافية بين عالمين مع تقديم «رؤية تخصّصية صاغتها تربية تقليدية، تماماً، في الثقافة الإسلامية». وفي الوقت نفسه «رؤية مرنة وعصرية عن هذه الثقافة، تنسجم مع العقلية الغربية، وقادرة على استخدام لغة صحيحة لتحقيق قدر أكبر من الفهم»، الشيء الذي يتيح للمعرض «إعادة رسم صورة أندلس فيحاء تميّزت بحضارة عشقت الطبيعة ومازجت بين عناصرها المختلفة، وأبدعت فيها بما أمكن للإنسان الأندلسي، في ذلك الزمان، بلوغه وتطويره من معارف علمية وزراعية وإيكولوجية وهندسية رفيعة». وهو أمر يوفّر أكثر من فائدة من وراء زيارته. فهو يذكر بالأندلس والأثر الجميل الذي خلفه المسلمون وراءهم، كما يمنح الزائر فرصة التعرف على معطيات تتعلق بالحدائق وكل ما يرتبط بتقنيات الرّي والبستنة، كما أبدعها عرب ومسلمو الأندلس. وكما في كل المعارض السابقة، حرص المنظمون على تأكيد أن المعرض لا يسعى إلى إثارة شجون الماضي المرتبط بالوجود العربي الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية، والحكايات المحزنة المرتبطة بطردهم منها.
في مدخل بناية المسرح الملكي، التي تحتضن المعرض، تستقبلك أشجار الزيتون والرمان والبرتقال وغيرها. وفي البهو تنتصب لوحات عملاقة تحمل صوراً لبنايات تاريخية وحدائق، مرفقة ببيانات توضيحية، فضلاً عن مجسمات مصغرة لأنظمة الري وتقنيات البستنة الأندلسية، وصناديق زجاجية للعطور الرفيعة التي اشتقها الأندلسيون من رحيق النباتات. وإلى وسط البهو، يمكن للزائر أن يستمتع بمضمون أشرطة تنقله إلى عالم الأندلس الأخضر، عبر شاشات صغيرة وضعت خصيصاً لهذا الغرض، وفي الجانب الأيمن من البناية انخرطت مجموعة موسيقية في إمتاع الزوار بوصلات من روائع الموسيقى الأندلسية.
ودفعاً لتهمة التذكير بـ«الجرح» الأندلسي، يشدّد المنظمون على أن المعرض يتوخى عرض البستان الإسلامي بوصفه «مساحة للالتقاء والتعايش وبوتقة حضارية بلورت أسلوباً خاصاً للمناظر الطبيعية، وتأقلمت فيها أنواع نباتية متنوعة ومجهولة، حتى ذلك الحين». ومن المعروف أن الأندلسيين استقدموا الشغف بالجنائن والبساتين من المشرق، وكان نموذجهم المرجعي الأول هو الحديقة الفارسية الأصل، بممراتها الواسعة وقنواتها وينابيعها، إلى جانب عناصر معينة من الثقافة الرومانية، وأنشأوا نمطاً خاصاً بهم، نما وتطور، مع تتابع القرون. وتميّزت تلك الفترة بما سُمي «الباحة المربعة» المفروشة بمشاتل منخفضة المستوى تتوسطها بركة أو بحيرة مركزية. وظهرت، كذلك، مساحات الحدائق وجنائن بديعة في البساتين المخصصة للراحة والاستجمام. وتشبّعت بلدان الضفة المتوسطية بهذه الثقافة، التي تستحسن الخضرة والصوت المريح للماء والهدوء الذي ينبعث من المساحات الخضراء. ويرى كثيرون أن المغرب يعد الوريث المباشر لهذا التراث الفني الأندلسي.
وداخل المعرض، وقبل الوصول إلى لوحة تحمل عنوان «الجنينة الشعرية»، نتوقف عند أبيات شعرية للشاعر الأندلسي ابن خفاجة، يخاطب فيها أهل الأندلس، يقول فيها:
«يا أهل أندلس، لله درّكم ماءٌ وظلٌّ وأنهارٌ وأشجارُ ما جَنّة الخُلد إلا في دياركم ولو تخيّرتُ هذا كنتُ أختار لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقراً فليس تُدخلُ بعد الجنةِ النارُ».
وجاء في إحدى اللوحات، أن العالم الإسلامي اتسم بشغف واضح بالطبيعة، لم يتجلّ في زراعة الكثير من الجنائن والبساتين حول المدن الأندلسية فحسب، بل انعكس كذلك، في رغبة التمتع بمناظرها، وبالرفاه الذي يبعثه القرب منها. ولذا اعتاد المجتمع في كل أنحاء العالم المسلم، منذ النصف الثاني من القرن العاشر للميلاد، الخروج إلى ضواحي المدن للتمتع بالطبيعة. وكان مشهد المجموعات العائلية التي تتناول الطعام على ضفاف الأنهر في أجواء الاحتفالات الشعبية شائعاً في تلك الأوقات.
وفي لوحة أخرى، نكون مع «جنة عدن»، كما روي عنها في الكتب المقدسة، وهي التي تنطبق على «الجنة الأولى في العالم الإسلامي»، التي خلق الله (عز وجل) فيها آدم.
وبصدد الجنان الأندلسية، تقول إحدى اللوحات، إن عدداً من المؤرخين يذهبون إلى أن أقدم الجنان الأندلسية الداخلية، هي المعروفة باسم «باحة البرتقال» في المسجد الجامع بقرطبة، الذي شرع في بنائه في القرن الثامن الميلادي، في حين تعود «حديقة النافورات» الموجودة في حصن مالقة، إلى القرن التاسع للميلاد. وفي سرقسطة، توجد «جنينة قصر الجعفرية»، التي يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر. وفي فترة الموحدين، بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، نجد «باحة الجصّ» في «قصر المبارك» بإشبيلية. ومن بين أروع الحدائق الأندلسية القديمة التي ما زالت ماثلة أمامنا، «جنة العريف» و«قصر الحمراء» في غرناطة.
وفي لوحة أخرى، نكون مع عنوان «الخرافات السحرية» وعلاقتها بالزراعة في العالم العربي والإسلامي. وعلى الرغم من أن تيارات الفكر الإسلامي لم تتقبل تلك المعتقدات والخرافات تماماً، فإن الزراعة الشعبية، غالباً، ما تبنتها وطبقتها. ومن هذه المعتقدات، نقرأ أنه «في حالة وجود شجرة لا تمنح ثماراً يجب على صاحب المزرعة أن يقترب منها حاملا فأساً، بصحبة صديق له، ويقول له بصوت مسموع إنه عازم على قطع الشجرة لأنها عقيمة. وينبغي للصديق أن يقنع المزارع بالعدول عن فكرته ويدع تلك الشجرة تعيش عاماً آخر، حتى تعطي ثماراً كثيرة في العام الموالي».
وفي لوحة أخرى، نكون مع استخدام الماء في البساتين والأملاك الكبيرة، تقول إن العالم العربي انبثق في بيئة قاحلة، ولذلك فإن أول الشعوب التي كونته ـ أي العرب ـ تثمن الماء وتعتبره كنزاً أصيلاً نظراً إلى حاجتها إليه. إلا أن أهم إشارات إلى أهمية الماء، واعتباره أصل الحياة بكل مظاهرها وأنواعها وردت في القرآن الكريم، حيث جاء في الآية 63 من سورة «الحج»: «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتُصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير(63)». أو الآيتين 10 و11 من سورة «النحل»، حيث نقرأ: «هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شرابٌ ومنه شجرٌ فيه تُسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11)».
وبصدد «الجنينة البستان»، نقرأ أنه، في عالم الأندلس، كان للحدائق والجنان وظيفة أوسع بكثير من الدور الجمالي المحض، حيث كان البستان معرضاً للنباتات العطرية وأشجار الفاكهة والغلات البستانية، توحّدت فيه متعتا النظر والشم، مع الرغبة في الاستغلال الزراعي، مما أدى إلى اعتماد توزيع رشيد للماء وتطوير معرفة علمية بأقلمة الأنواع النباتية الجديدة. وهو ما يقود إلى «نظم توزيع الماء»، حيث يأتي التأكيد على أن الماء يعتبر في العالم الإسلامي هبة سماوية، وليس ملكاً موقوفاً للبشر، الذين ليسوا سوى حافظين للوديعة، ولذلك فإن من واجبهم توزيعها بالعدل على من يحتاج إليها. وقد أفاد هذا المفهوم، في الأندلس، في إقامة نظام متقن للرّي. وفي هذا السياق، نتوقف لدى التجول داخل المعرض عند لوحتين تعرفان بـ«النواعير المائية» و«السواقي» الأندلسية، فنكون مع مجسمات لـ«ناعورة الكابيو»، و«الموارد المائية في الأندلس»، و«معاصر قصب السكر»، و«مكيال الحبوب»، و«المكفر»، وهي أداة لعزق التربة وتنظيفها من الأعشاب البرية، و«المد». كما نكون مع تعريفات لليمون والكمّون والزنجبيل والخزامى والإكليل، وشتى أنواع الأزهار، مثل الخيري والزنبق والنرجس.
المنظمون يرون في المعرض جزءاً من مشروع ثقافي طموح ترعاه «مؤسسة الثقافة الإسلامية» لغرض تقديم «رؤية متوازنة وموضوعية عن الإسلام، وإطلاع الجمهور على الدور الإيجابي الذي لعبه الإسلام داخل بعض المجتمعات الأوروبية». مع تأكيد أن هذا الجانب من التصالح مع التاريخ يبدو في غاية الأهمية، سواء بالنسبة للعرب الذين فقدوا الأندلس بعدما عمروها طيلة سبعة قرون، أو بالنسبة للأسبان، الذين خاصموا تلك الحقبة، حتى أن أجزاء كثيرة من التاريخ الذي يدرس للنشء يقفز عليها متجاهلاً إياها