عبد الكبير الميناوي
ليل مراكش
عبق التاريخ وخطى الرجال
مراكشْ ... مدينةٌ تسكنها فتسكنك.
هي مدينة النخيل.
النخيل في مراكش منتشرٌ في كل مكان. نابتٌ حيث شاء.
للنخيل جمالٌ خاص. فارعُ الطول إذ يتجه إلى السماء، حتى وهو يميل إلى هذا الجانب دون الآخر.
هي الحمراء والبهجة، ومدينة السبعة رجال :
سيدي يوسف بن علي،
القاضي عياض،
أبو العباس السبتي،
الإمام الجزولي،
عبد العزيز التباع،
عبد الله الغزواني،
الإمام السهيلي.
ليست مراكش مجرد مدينة يحددها موقعها الجغرافي على الخريطة. إنها رمز وتاريخ ممتد بتفاصيله في الكتب وجغرافية المكان.
لمراكش تاريخٌ غني بأحداث صنعت تاريخ منطقة ممتدة بجغرافيتها.
أحداثٌ غير عادية في التاريخ، ورجالٌ غير عاديين، في حياة مدينة غير عادية.
أحداثٌ وتواريخ. ملوكٌ وفلاسفةٌ وشعراء وعلماء، وقادة حروب.
أسماءٌ أثثت لحضارة قُرأت بأكثر من لغة، فيما تقدم لتاريخ علمي زاخر.
أسماءٌ ظلت تقدم من خلال سيرة وحياة أصحابها نظرة رمزية عن مسار ومصير حضارة.
مراكشْ ... تاريخٌ ممتدٌّ بأحداثه.
أسرةٌ حاكمةٌ تترك مكانها لأخرى، والمدينةُ أبداً شامخةٌ في مكانها، بكل بهائها ورمزيتها، تعانق نخيلها فيما تصنع بهجتها، ومن أخضع المدينة واستباح عرصاتها صار سيداً لساداتها.
بين الماضي والحاضر تفتح مراكش ذراعيها.
تستقبل زوارها، وتمنحهم نهارها نخلاً وليلها ثمراً.
في مراكش.
عن ليل مراكش.
ليس من رأى كمن سمع.
مدينة تزداد جمالا
"هذه مدينة تزداد جمالا".
هكذا لخص ياسين عدنان لجولة قصيرة بالسيارة، قادتنا من عرصة مولاي عبد السلام إلى منتهى شارع محمد السادس. غابةُ الشباب بزيتونها.
حدائقُ أكدال التي تبدو كما لو أنها لاتنتهي في المكان.
المشور السعيد.
القصبة وسيدي ميمون، فضريح يوسف بن تاشفين، لتبقى الكتبية، بين هذا وذاك، مقياساً لضبط المسافات.
بالنهار، تأخذُ الكتبية لون ترابها.
بالليل، تزيدها الأضواء هالة من السحر والجمال.
بالنهار، كما بالليل، تحافظ الكتبية على هيبتها.
إنها حارسة المكان.
تتوسع المدينة على نحو متسارع، وفي كل الاتجاهات.
من جليز إلى سيدي يوسف بن علي والمحاميد.
من سيدي عباد وإسيل والداوديات إلى المسيرة وتاركة والنخيل.
يرى البعض أن المدينة تتوسع على نحو جيد، وبتخطيط يبدو مراعيا لكثير من الاستراتيجيات.
الحدائق منتشرة عبر أحياء المدينة.
نخلٌ يحفظ للمدينة ذاكرتها ووردٌ يرحب بالزوار، فيما يمنح العين لحظة للاغتسال.
تتعدد مراكش في فضاءاتها :
المنارة بحدائقها.
ساحة جامع الفنا بعالمها العجائبي، بالنسبة للسياح على الأقل.
شارع فرنسا، المحتفي ليلا بنجوم فنادقه المنذورة لسهر فريد من نوعه.
باب الخميس بزحامه وبساطة رواده، وغرابة كثير من معروضاته.
حافلات "ألزا" تخيط المدينة والضواحي.
أرقامٌ لكل الاتجاهات وعناوين لتقريب المسافات.
عرصة البيلك.
الرويضات.
عرصة السباعي.
عرصة الملاك.
النخيل.
مرجان.
المسيرة.
تاركة.
سيدي يوسف بن علي.
سيدي ميمون.
الحي المحمدي.
ملعب الحارثي.
ساحة 16 نونبر.
حدائق ماجوريل.
دار بلارج.
أبواب مراكش ... باب الرب. باب اكناو. باب اغمات. باب اجديد. باب النقب. باب دكالة، والزيتونات السبع المعلقات ما بين السماء والإسمنت المنتصب على شكل تذكارات تحيل، ربما، على السبعة رجال.
ليلُ شارع فرنسا جميل وهادئ.
شارعٌ من خمس نجوم.
مقاهي وفنادق باذخة.
المسرح الملكي، على الجانب، يستمتع بأضوائه الجميلة التي ترخي عليه هالة خاصة تحتاج فقط إلى مزيد من اللذة الثقافية.
قصر المؤتمرات وأيام مهرجان مراكش للسينما، حيث السينمائيون المغاربة يجتمعون إلى بعضهم وإلى آلامهم وآمالهم المشتركة.
من سينمائيينا من يحْملُ فنّاً.
منهم من يدَّعيه.
يتحول شارع فرنسا إلى جزء من شارع محمد السادس، الممتد إلى عمق "دوار الهنا" وبقايا معمل السكر، الذي قايض السعديون بسكره رخاماً إيطالياً.
ذهب السكر مشروباً، وأثث الرخام لذاكرة التاريخ، عبر أثارات المدينة.
شارع محمد السادس.
تلخيصٌ لما يهيئ لمدينة مراكش على مستوى استقطاب المشاريع السياحية والتخطيط لبناء عمراني باذخ : بناياتٌ أشبه بالقصور، ولغة المال والرفاهية ترتب للمكان.
لن يكون للفقر مكان، هنا.
ومن يدري، فلربما تصلح "تامنصورت" ماأفسده الفقر !
شارع جليز
ليلُ مراكش ليس كنهارها.
نهارُ مراكش قانع ببياضه، تستريح من خلاله المدينة في انتظار ليلٍ يحتفي بأضوائه وناسه.
شارع جليز.
فسيحٌ وعريضٌ.
في المساء، رجالٌ ونساءٌ من مختلف الأعمار والثرثرات، يجيئون على صهوة الضيم ممتطين شعراً راقصاً أو أغنيةً بكلماتٍ نزاريةٍ ولحنٍ عراقي، وفي البال بقايا أغنيةٍ مصورة لنانسي عجرم أو روبي أو كارول سماحة أو هيفاء وهبي.
رجالٌ وكفى.
كلٌ يبحث عن من تفتّرُ عطرها لتغمسه فيه.
كلٌ يقاوم هروباً ضاغطاً نحو أجساد تتمايل في غنج، وهي تغزو كل مساء شارع جليز.
جميلاتٌ يحملهن الغروب عبر الشارع، كما لو أنهن خرجن لتوهن من إحدى "حكايات" ستار أكاديمي.
جميلاتٌ في نصف لباس.
فاتناتٌ ينتعلن أحذيةً رياضيةً على الموضة وسراويل جينز طاي باص، وينتهين من التأثيث لشكل الجسد بشعرٍ على النصف أو يلهث في الخلف، على إيقاع حياةٍ مشرعةٍ على الفرح وراحة البال.
مراكشياتٌ، مازلنَ يصنعنَ بالجلابيب البلدية الغوايات القصوى.
شارع جليز.
فسيح وعريض، برُواد مقاهيه الممتدة أعين غالبيتهم إلى ما تمتلئ به سراويل الجينز الأنثوية !
مطعم وحانة و"دْجاجْ" الإصكال.
الرواق الأزرق.
مقهى التجار.
المقهى الكبير ومطعم المتوسط.
سينما كوليزي، مقصد عشاق السينما، أو المتيمين بحب بعضهم البعض، أو الداخلين لتوهم في علاقة عشق جديدة.
لشارع جليز مقاهي بروادٍ من مختلف الجنسيات والثرثرات. مقاهي يرتاح إلى كراسيها روادٌ يستهلكون، في غالبيتهم، الكلام والدخان والكلمات المسهمة، ويتعجبون لأشياءَ كيف حدثت ولأخرى كيف لم تحدث، دون أن يجدوا حرجاً في الدفع بأعينهم لينهشوا جميلاتٍ وصدوراً وأشياءَ أخرى، أو ليلعنوا الوقت الصعب والزوجات والأزمنة التي تزوجوا فيها – على رأي حسان بورقية.
قهوه نص – نص، قاسْحه أو خْفيفه، في كاس كْبير أو صْغير. لاتهم جودة المشروب، في كثير من الأحيان.
المهم، أن تكون زاوية الرؤية مواتية لرصد حركة ووجوه الغادين والرائحين.
سائق الطاكسي
تختنق مراكش بزوارها القادمين من داخل المغرب وخارجه. مدينة ساحرة، تتطلع نحو المستقبل بكثير من الأسئلة حول اللون الذي سيصير لها، وإن كان بإمكانها أن تحافظ على بهجتها وبساطتها.
يحل بالمدينة نجوم من عوالم الرياضة والسينما والموضة والاقتصاد والتجارة. شين كونري. ألان دولون. براد بيت. نيكول كيدمان. زين الدين زيدان. ديفيد بيكام. ناعومي كامبل. إيف سان لوران، جوليا روبرتس، طوم هانكس، أنجلينا جولي، وآخرون ممن تنفتح أمامهم عوالم البالموري والمامونية.
سياحٌ من عالم باذخ.
منهم من يفضلها جولة خاطفة.
منهم من يصاب بحب الاستقرار الدائم، بعد اقتناء دار عتيقة وإصلاحها، وربما تحويلها إلى دار ضيافة.
انتهى الأمر بقاصدي مراكش من السياح الآتين من أوربا وأمريكا، إلى التعامل بحزم زائد وقلق ظاهر، مع شيء من التأفف، من بعض سائقي سيارات الأجرة وأصحاب المقاهي والمطاعم والبازارات، ممن يبدو السائح أمامهم مثل وكالة بنكية متحركة.
بعض سائقي سيارات الأجرة لايُشغِّلون العداد، ويكتفون عند نهاية الرحلة بعبارة : " غيرْ انْت وْوجْهكْ".
بعضهم، يرابط باستمرار أمام الفنادق والمطاعم المصنفة، في انتظار سائحٍ تائهْ أو مغربي "ناشط" أكثر من اللازم.
رشيد، سائق سيارة أجرة، مجاز في الفيزياء.
يتكلم بصفاء طوية.
ينقل إليك، من خلال طريقته في الحديث، أن مكانه الصحيح ليس وراء مقود سيارة أجرة متهالكة.
أخبار الثامنة على إذاعة ميدي 1.
اللاءات الثلاث تؤثث للنشرة.
لا الفرنسية. لا حركة كفاية المصرية. لا من أجل لبنان.
آش هاذ العالم؟
يرى رشيد أن السياحة في مراكش، وفي المغرب عموماً، تحتاج إلى "منطق فرض الثقة"، سواء في تعامل سائق سيارة الأجرة أو البازاريست أو غيرهما. السياحة، برأي السائق الشاب، أمانٌ نفسي واحترامٌ لذكاء متبادل بين الناس.
اشْكون سمْعك، آصاحبْنا؟؟
المغاربة، هنا أحلى !!
المساء لطيفٌ، وليلُ مراكش يغري بالسهر.
علبٌ ليلية تشتغل على إيقاع الرقص والموسيقى، وليلٌ يقاوم تعب الشرب والسهر.
إذا جرَّك ليلُ مراكش إلى طيباته، فلن تقنع بليلة واحدة، ولا حتى بسبع ليالٍ.
الليل ساحرٌ ويغري بالسهر.
فقط، يلزمك المال الكافي ووقار الجلسة، أو فلتركن إلى بيتك، حيث قناة الجزيرة الرياضية ومباريات الليغا الإسبانية، أو إلى القنوات الإخبارية، حيث بقايا السيارات المفخخة والدم العراقي المُراق في الأسواق الشعبية وعلى جوانب الطرقات.
تزداد المدينة جمالاً واستقطاباً لزوار من مختلف الأعراق.
مانْويللا.
إسبانيةٌ تتحدث الإنجليزية بطلاقة.
جاءت مراكش بحثاً عن صيفها في عز شتاء المدينة.
تقول مانويللا إن الزوج الذي لا يستطيع أن يحل مشاكله في الفراش لن يقدر أن يحلها في مكان آخر.
لاتتذكر مانويللا إن سبق لها يوماً أن صادفت، هناك في إسبانيا، مغربياً يخوض في السينما والمسرح وحكاية كوجيطو ليوناردو دافنشي ويفهم في الشعر ويتفهم غناء بافاروتي وألوان بيكاسو.
ربما لأجل ذلك، لاترغب مانويللا في رؤية المزيد من المغاربة، هناك في إسبانيا !!
"المغاربة، هنا أحلى"، تقول مانويللا !!
ليلُ مراكش جميلٌ وهادئ.
جميلٌ بسحره وهادئٌ بأمنه وأمانه.
على غير عادة مدن مغربية أخرى، تبدو مراكش مدينة أمن وأمان.
التجولُ ليلاً، وحتى الساعات الأولى من الصباح، صار ميزة مراكشية.
في مدن أخرى، ربما سيكون عليك، وأنت تتمشى، أن تلتفت يميناً ويساراً مخافة أن يهجم عليك أحدهم طالباً منك، بأدب أو بدونه، أن تمُدَّه بما حوته جيوبك ومعصمك من مال وذهب، مع أجمل الأماني بألا يحدث ما يجعلك تعرضُ عن رؤية وجهك في المرآة.
حكاية الشيخ الوقور
يبدو محمد باريز مثل أي مغربي أنهكه الصراع مع الحياة وأيامها.
شيخُ حلقةٍ بنظاراتٍ طبية.
أسمر اللون، بلهجة مراكشية وتعطش متواصل إلى الحكي.
لمحمد باريز سيرةٌ ذاتيةٌ غريبة.
مابين جوطية الفقيه بن صالح وأضواء الحكي بباريس، صار لمحمد باريز اسمٌ رمزي وكثيرٌ من الدفء والأصدقاء.
يُشكِّل محمد باريز حلْقته.
يطلب من الصغار الجلوس، فيما يشد انتباه الكبار إلى حكْي تؤثثه حكايات ألف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن وأيام بغداد وفاس والقاهرة، وأسماء ملوك وأمراء وأميرات وقادة حروب وسحرة وكهان وعفاريت وجواري، لايمكنك أن تلتقيهم وتسمع عنهم دفعة واحدة إلا وأنت في حضرة الكتب التراثية وحلقات الحكي العجيبة.
على بعد خطوات من حلقة محمد باريز، يجلس خوان غويتصولو بمقهى فرنسا مادّاً ناظريه نحو ساحة جامع الفنا، التي دفعت بشيوخ الحلقة والحكي إلى الجانب، فيما يتوسطها باعة الفواكه الجافة والحلزون وعصير البرتقال وكل أنواع الطعام.
خوان غويتصولو، لمن لايعرفه، إسبانيٌّ يقيم بمراكش منذ أزيد من ربع قرن.
كاتبٌ معروف بمواقف إنسانية جميلة.
تتلخص في خوان غويتصولو كثيرٌ من المزايا الدافئة.
تبدو في عيني هذا الإسباني "الغريب" أو الإسباني "على مضض" أمارات التواضع، هو الذي رسم كثيراً من الخطوط الرابطة بين مآسي القصف في البوسنة والعراق وفلسطين وغيرها من نقط الدمار والقتل، وراكم الزيارات إلى دم العالم المُراق هنا أو هناك.
على عكس خوان، يأتي كثير من الأدباء إلى مراكش على حبل الدعوات والميكروفونات وبياض اللباس ودلال التعرف على الأمكنة.
يأتون بهالة زائدة عن اللزوم.
ينزلون بأرقى الفنادق.
يقتصدون في كلامهم، كمن اكتشف عالماً غريباً عليه.
وحين يقصدون مكاتبهم، هناك بالشمال، يضيفون لياليهم المراكشية إلى حكايات ألف ليلة وليلة.
يكتفي خْوان بمجالسة ومعاشرة البسطاء بمقهى فرنسا والقنَّارية.
يتكلم كأب، ويمشي بين الناس كشيخ وقور.
خْوان الذي منحته اليونسكو شرف كتابة نص إعلان اعتبار ساحة جامع الفنا ضمن التراث الإنساني، اعترافاً منها بجهوده في الدفاع عن حق الساحة في إعمال الخيال والتحلي بكثير من الحس الجمالي عند كل محاولة لتوسيعها أو التغيير في ملامحها.
الجلوسُ إلى مقاهي شارع جليز، يُصبح بلا طُعم، حين تستبد بك الرغبة في ساحة جامع الفنا.
مساءات مراكش، خلال شهر يونيو، ساحرة.
هو سحر مراكش الذي يمتد إلى ساعات متأخرة من الليل.
جالساً إلى طاولة بمقهى التجار.
أتطلع إلى ساعة هاتفي المحمول.
السابعة والربع ... أحسنُ توقيت لزيارة جامع الفنا وشرب كأس شاي منعنع بمقهى فرنسا.
في لحظات ... كنتُ في الطريق إلى الساحة.
الحركة في أوجها.
مساء شارع جليز وفيٌّ لطقوسه وعاداته.
سياراتٌ ودراجاتٌ ناريةٌ وهوائيةٌ وراجلون لايقلُّون هوائيةً تتقاذفهم الأرصفةُ والطرقات.
الماكدونالدز غاص بشباب مغربي منفتح على العصر، وعلى بعضه البعض.
ساحة 16 نونبر تحتفي بماء نافورتها.
أما الكتبية ففي امتداد النظر.
تتوقف سيارة الأجرة.
فندق التازي، ثم سينما مبروكة ورائحة الشاورما المنبعثة من مطاعم "البرانس"، فبناية بنك المغرب.
عمقُ الساحة.
صفٌّ طويل من عربات عصير البرتقال في مواجهة بائعي الحلزون ودخان النقانق.
مقهى فْرنسا وخْوان جالس كعادته.
نفسُ الطاولة.
نفسُ الهدوء.
أترك خْوان جالساً إلى هدوئه وناسه.
أؤجل زيارة سوق السمارين إلى الغد، وأغوص في الساحة.
منظر قارئات الكف، ولهجتهن المراكشية، يؤكد لكَ أن قراءة المستقبل هي آخر ما جاء بهن إلى الساحة، وأنه سيكون عليك، وأنت جالسٌ إلى إحداهن، أن تغير الموضوع صوب فكاهة تعادل الدراهم التي ستمدها بعد أن تنقل لك صاحبة الخمار أمامك أن شقراء تنتظرك في أحلامها بعد غد، وأن وظيفة سامية فْ "المخزن" تنتظرك ببريقها ومالها وجاهها.
نقشٌ بالحناء ودعوات محرجة لتناول كأس عصير أو وجبة عشاء في الهواء الطلق.
حلقاتٌ تتناول الجوانب الخفية للحياة الجنسية، تخاطب في الرجل فحولته.
يُنشِّط الحلقات، في الغالب، شبانٌ يجتهدون في نقل الانطباع بأنهم سادة الفتوحات الجنسية.
يُدغدغون مشاعر المتحلقين حولهم، فيما يهيئونهم لشراء معجونٍ أو دهان يساعد ساعة لاينفع المرء لاماله ولاجاهه إلا فحولته، ساعة اختلائه بصاحبته.
أغاني ناس الغيوان ولمشاهب وجيل جيلالة تمنح الساحة نكهتها.
موسيقى كناوة وسوس والأطلس المتوسط والشاوية تخوض في تفاصيل الجغرافية المغربية.
عروض أولاد سيدي احْماد وْمُوسى ومباريات الملاكمة.
عالمٌ غريبٌ من الثرثرات والأعراق والمشاهد والمشاعر.
أهواءٌ مختلفةٌ ومتعددةٌ تحمل أصحابها لدخول عالم سحري يجمعُ دخان النقانق بمروضي الأفاعي والقردة، أما حلقات الحكْي فصارت تنسى، يوماً عن آخر، ملاحم سيف بن ذي يزن، وحكايات ألف ليلة وليلة، وبطولات عنترة بن شداد، وشجاعة سِيدْنا عَلِي في مواجهة راس الغول، بعد أن هجمت عليها فكاهة رصيف تتبنى الضحك الفارغ من دفء المكان.
مراكشْ ...
مدينةٌ تسكنها فتسكنك.
اهبطوا مراكش، فلكم فيها ماشئتم.
طقسٌ جميلٌ لمقاومة الرطوبة وبهجةٌ للترويح عن النفس.
مراكش
ليل مراكش
عبق التاريخ وخطى الرجال
مراكشْ ... مدينةٌ تسكنها فتسكنك.
هي مدينة النخيل.
النخيل في مراكش منتشرٌ في كل مكان. نابتٌ حيث شاء.
للنخيل جمالٌ خاص. فارعُ الطول إذ يتجه إلى السماء، حتى وهو يميل إلى هذا الجانب دون الآخر.
هي الحمراء والبهجة، ومدينة السبعة رجال :
سيدي يوسف بن علي،
القاضي عياض،
أبو العباس السبتي،
الإمام الجزولي،
عبد العزيز التباع،
عبد الله الغزواني،
الإمام السهيلي.
ليست مراكش مجرد مدينة يحددها موقعها الجغرافي على الخريطة. إنها رمز وتاريخ ممتد بتفاصيله في الكتب وجغرافية المكان.
لمراكش تاريخٌ غني بأحداث صنعت تاريخ منطقة ممتدة بجغرافيتها.
أحداثٌ غير عادية في التاريخ، ورجالٌ غير عاديين، في حياة مدينة غير عادية.
أحداثٌ وتواريخ. ملوكٌ وفلاسفةٌ وشعراء وعلماء، وقادة حروب.
أسماءٌ أثثت لحضارة قُرأت بأكثر من لغة، فيما تقدم لتاريخ علمي زاخر.
أسماءٌ ظلت تقدم من خلال سيرة وحياة أصحابها نظرة رمزية عن مسار ومصير حضارة.
مراكشْ ... تاريخٌ ممتدٌّ بأحداثه.
أسرةٌ حاكمةٌ تترك مكانها لأخرى، والمدينةُ أبداً شامخةٌ في مكانها، بكل بهائها ورمزيتها، تعانق نخيلها فيما تصنع بهجتها، ومن أخضع المدينة واستباح عرصاتها صار سيداً لساداتها.
بين الماضي والحاضر تفتح مراكش ذراعيها.
تستقبل زوارها، وتمنحهم نهارها نخلاً وليلها ثمراً.
في مراكش.
عن ليل مراكش.
ليس من رأى كمن سمع.
مدينة تزداد جمالا
"هذه مدينة تزداد جمالا".
هكذا لخص ياسين عدنان لجولة قصيرة بالسيارة، قادتنا من عرصة مولاي عبد السلام إلى منتهى شارع محمد السادس. غابةُ الشباب بزيتونها.
حدائقُ أكدال التي تبدو كما لو أنها لاتنتهي في المكان.
المشور السعيد.
القصبة وسيدي ميمون، فضريح يوسف بن تاشفين، لتبقى الكتبية، بين هذا وذاك، مقياساً لضبط المسافات.
بالنهار، تأخذُ الكتبية لون ترابها.
بالليل، تزيدها الأضواء هالة من السحر والجمال.
بالنهار، كما بالليل، تحافظ الكتبية على هيبتها.
إنها حارسة المكان.
تتوسع المدينة على نحو متسارع، وفي كل الاتجاهات.
من جليز إلى سيدي يوسف بن علي والمحاميد.
من سيدي عباد وإسيل والداوديات إلى المسيرة وتاركة والنخيل.
يرى البعض أن المدينة تتوسع على نحو جيد، وبتخطيط يبدو مراعيا لكثير من الاستراتيجيات.
الحدائق منتشرة عبر أحياء المدينة.
نخلٌ يحفظ للمدينة ذاكرتها ووردٌ يرحب بالزوار، فيما يمنح العين لحظة للاغتسال.
تتعدد مراكش في فضاءاتها :
المنارة بحدائقها.
ساحة جامع الفنا بعالمها العجائبي، بالنسبة للسياح على الأقل.
شارع فرنسا، المحتفي ليلا بنجوم فنادقه المنذورة لسهر فريد من نوعه.
باب الخميس بزحامه وبساطة رواده، وغرابة كثير من معروضاته.
حافلات "ألزا" تخيط المدينة والضواحي.
أرقامٌ لكل الاتجاهات وعناوين لتقريب المسافات.
عرصة البيلك.
الرويضات.
عرصة السباعي.
عرصة الملاك.
النخيل.
مرجان.
المسيرة.
تاركة.
سيدي يوسف بن علي.
سيدي ميمون.
الحي المحمدي.
ملعب الحارثي.
ساحة 16 نونبر.
حدائق ماجوريل.
دار بلارج.
أبواب مراكش ... باب الرب. باب اكناو. باب اغمات. باب اجديد. باب النقب. باب دكالة، والزيتونات السبع المعلقات ما بين السماء والإسمنت المنتصب على شكل تذكارات تحيل، ربما، على السبعة رجال.
ليلُ شارع فرنسا جميل وهادئ.
شارعٌ من خمس نجوم.
مقاهي وفنادق باذخة.
المسرح الملكي، على الجانب، يستمتع بأضوائه الجميلة التي ترخي عليه هالة خاصة تحتاج فقط إلى مزيد من اللذة الثقافية.
قصر المؤتمرات وأيام مهرجان مراكش للسينما، حيث السينمائيون المغاربة يجتمعون إلى بعضهم وإلى آلامهم وآمالهم المشتركة.
من سينمائيينا من يحْملُ فنّاً.
منهم من يدَّعيه.
يتحول شارع فرنسا إلى جزء من شارع محمد السادس، الممتد إلى عمق "دوار الهنا" وبقايا معمل السكر، الذي قايض السعديون بسكره رخاماً إيطالياً.
ذهب السكر مشروباً، وأثث الرخام لذاكرة التاريخ، عبر أثارات المدينة.
شارع محمد السادس.
تلخيصٌ لما يهيئ لمدينة مراكش على مستوى استقطاب المشاريع السياحية والتخطيط لبناء عمراني باذخ : بناياتٌ أشبه بالقصور، ولغة المال والرفاهية ترتب للمكان.
لن يكون للفقر مكان، هنا.
ومن يدري، فلربما تصلح "تامنصورت" ماأفسده الفقر !
شارع جليز
ليلُ مراكش ليس كنهارها.
نهارُ مراكش قانع ببياضه، تستريح من خلاله المدينة في انتظار ليلٍ يحتفي بأضوائه وناسه.
شارع جليز.
فسيحٌ وعريضٌ.
في المساء، رجالٌ ونساءٌ من مختلف الأعمار والثرثرات، يجيئون على صهوة الضيم ممتطين شعراً راقصاً أو أغنيةً بكلماتٍ نزاريةٍ ولحنٍ عراقي، وفي البال بقايا أغنيةٍ مصورة لنانسي عجرم أو روبي أو كارول سماحة أو هيفاء وهبي.
رجالٌ وكفى.
كلٌ يبحث عن من تفتّرُ عطرها لتغمسه فيه.
كلٌ يقاوم هروباً ضاغطاً نحو أجساد تتمايل في غنج، وهي تغزو كل مساء شارع جليز.
جميلاتٌ يحملهن الغروب عبر الشارع، كما لو أنهن خرجن لتوهن من إحدى "حكايات" ستار أكاديمي.
جميلاتٌ في نصف لباس.
فاتناتٌ ينتعلن أحذيةً رياضيةً على الموضة وسراويل جينز طاي باص، وينتهين من التأثيث لشكل الجسد بشعرٍ على النصف أو يلهث في الخلف، على إيقاع حياةٍ مشرعةٍ على الفرح وراحة البال.
مراكشياتٌ، مازلنَ يصنعنَ بالجلابيب البلدية الغوايات القصوى.
شارع جليز.
فسيح وعريض، برُواد مقاهيه الممتدة أعين غالبيتهم إلى ما تمتلئ به سراويل الجينز الأنثوية !
مطعم وحانة و"دْجاجْ" الإصكال.
الرواق الأزرق.
مقهى التجار.
المقهى الكبير ومطعم المتوسط.
سينما كوليزي، مقصد عشاق السينما، أو المتيمين بحب بعضهم البعض، أو الداخلين لتوهم في علاقة عشق جديدة.
لشارع جليز مقاهي بروادٍ من مختلف الجنسيات والثرثرات. مقاهي يرتاح إلى كراسيها روادٌ يستهلكون، في غالبيتهم، الكلام والدخان والكلمات المسهمة، ويتعجبون لأشياءَ كيف حدثت ولأخرى كيف لم تحدث، دون أن يجدوا حرجاً في الدفع بأعينهم لينهشوا جميلاتٍ وصدوراً وأشياءَ أخرى، أو ليلعنوا الوقت الصعب والزوجات والأزمنة التي تزوجوا فيها – على رأي حسان بورقية.
قهوه نص – نص، قاسْحه أو خْفيفه، في كاس كْبير أو صْغير. لاتهم جودة المشروب، في كثير من الأحيان.
المهم، أن تكون زاوية الرؤية مواتية لرصد حركة ووجوه الغادين والرائحين.
سائق الطاكسي
تختنق مراكش بزوارها القادمين من داخل المغرب وخارجه. مدينة ساحرة، تتطلع نحو المستقبل بكثير من الأسئلة حول اللون الذي سيصير لها، وإن كان بإمكانها أن تحافظ على بهجتها وبساطتها.
يحل بالمدينة نجوم من عوالم الرياضة والسينما والموضة والاقتصاد والتجارة. شين كونري. ألان دولون. براد بيت. نيكول كيدمان. زين الدين زيدان. ديفيد بيكام. ناعومي كامبل. إيف سان لوران، جوليا روبرتس، طوم هانكس، أنجلينا جولي، وآخرون ممن تنفتح أمامهم عوالم البالموري والمامونية.
سياحٌ من عالم باذخ.
منهم من يفضلها جولة خاطفة.
منهم من يصاب بحب الاستقرار الدائم، بعد اقتناء دار عتيقة وإصلاحها، وربما تحويلها إلى دار ضيافة.
انتهى الأمر بقاصدي مراكش من السياح الآتين من أوربا وأمريكا، إلى التعامل بحزم زائد وقلق ظاهر، مع شيء من التأفف، من بعض سائقي سيارات الأجرة وأصحاب المقاهي والمطاعم والبازارات، ممن يبدو السائح أمامهم مثل وكالة بنكية متحركة.
بعض سائقي سيارات الأجرة لايُشغِّلون العداد، ويكتفون عند نهاية الرحلة بعبارة : " غيرْ انْت وْوجْهكْ".
بعضهم، يرابط باستمرار أمام الفنادق والمطاعم المصنفة، في انتظار سائحٍ تائهْ أو مغربي "ناشط" أكثر من اللازم.
رشيد، سائق سيارة أجرة، مجاز في الفيزياء.
يتكلم بصفاء طوية.
ينقل إليك، من خلال طريقته في الحديث، أن مكانه الصحيح ليس وراء مقود سيارة أجرة متهالكة.
أخبار الثامنة على إذاعة ميدي 1.
اللاءات الثلاث تؤثث للنشرة.
لا الفرنسية. لا حركة كفاية المصرية. لا من أجل لبنان.
آش هاذ العالم؟
يرى رشيد أن السياحة في مراكش، وفي المغرب عموماً، تحتاج إلى "منطق فرض الثقة"، سواء في تعامل سائق سيارة الأجرة أو البازاريست أو غيرهما. السياحة، برأي السائق الشاب، أمانٌ نفسي واحترامٌ لذكاء متبادل بين الناس.
اشْكون سمْعك، آصاحبْنا؟؟
المغاربة، هنا أحلى !!
المساء لطيفٌ، وليلُ مراكش يغري بالسهر.
علبٌ ليلية تشتغل على إيقاع الرقص والموسيقى، وليلٌ يقاوم تعب الشرب والسهر.
إذا جرَّك ليلُ مراكش إلى طيباته، فلن تقنع بليلة واحدة، ولا حتى بسبع ليالٍ.
الليل ساحرٌ ويغري بالسهر.
فقط، يلزمك المال الكافي ووقار الجلسة، أو فلتركن إلى بيتك، حيث قناة الجزيرة الرياضية ومباريات الليغا الإسبانية، أو إلى القنوات الإخبارية، حيث بقايا السيارات المفخخة والدم العراقي المُراق في الأسواق الشعبية وعلى جوانب الطرقات.
تزداد المدينة جمالاً واستقطاباً لزوار من مختلف الأعراق.
مانْويللا.
إسبانيةٌ تتحدث الإنجليزية بطلاقة.
جاءت مراكش بحثاً عن صيفها في عز شتاء المدينة.
تقول مانويللا إن الزوج الذي لا يستطيع أن يحل مشاكله في الفراش لن يقدر أن يحلها في مكان آخر.
لاتتذكر مانويللا إن سبق لها يوماً أن صادفت، هناك في إسبانيا، مغربياً يخوض في السينما والمسرح وحكاية كوجيطو ليوناردو دافنشي ويفهم في الشعر ويتفهم غناء بافاروتي وألوان بيكاسو.
ربما لأجل ذلك، لاترغب مانويللا في رؤية المزيد من المغاربة، هناك في إسبانيا !!
"المغاربة، هنا أحلى"، تقول مانويللا !!
ليلُ مراكش جميلٌ وهادئ.
جميلٌ بسحره وهادئٌ بأمنه وأمانه.
على غير عادة مدن مغربية أخرى، تبدو مراكش مدينة أمن وأمان.
التجولُ ليلاً، وحتى الساعات الأولى من الصباح، صار ميزة مراكشية.
في مدن أخرى، ربما سيكون عليك، وأنت تتمشى، أن تلتفت يميناً ويساراً مخافة أن يهجم عليك أحدهم طالباً منك، بأدب أو بدونه، أن تمُدَّه بما حوته جيوبك ومعصمك من مال وذهب، مع أجمل الأماني بألا يحدث ما يجعلك تعرضُ عن رؤية وجهك في المرآة.
حكاية الشيخ الوقور
يبدو محمد باريز مثل أي مغربي أنهكه الصراع مع الحياة وأيامها.
شيخُ حلقةٍ بنظاراتٍ طبية.
أسمر اللون، بلهجة مراكشية وتعطش متواصل إلى الحكي.
لمحمد باريز سيرةٌ ذاتيةٌ غريبة.
مابين جوطية الفقيه بن صالح وأضواء الحكي بباريس، صار لمحمد باريز اسمٌ رمزي وكثيرٌ من الدفء والأصدقاء.
يُشكِّل محمد باريز حلْقته.
يطلب من الصغار الجلوس، فيما يشد انتباه الكبار إلى حكْي تؤثثه حكايات ألف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن وأيام بغداد وفاس والقاهرة، وأسماء ملوك وأمراء وأميرات وقادة حروب وسحرة وكهان وعفاريت وجواري، لايمكنك أن تلتقيهم وتسمع عنهم دفعة واحدة إلا وأنت في حضرة الكتب التراثية وحلقات الحكي العجيبة.
على بعد خطوات من حلقة محمد باريز، يجلس خوان غويتصولو بمقهى فرنسا مادّاً ناظريه نحو ساحة جامع الفنا، التي دفعت بشيوخ الحلقة والحكي إلى الجانب، فيما يتوسطها باعة الفواكه الجافة والحلزون وعصير البرتقال وكل أنواع الطعام.
خوان غويتصولو، لمن لايعرفه، إسبانيٌّ يقيم بمراكش منذ أزيد من ربع قرن.
كاتبٌ معروف بمواقف إنسانية جميلة.
تتلخص في خوان غويتصولو كثيرٌ من المزايا الدافئة.
تبدو في عيني هذا الإسباني "الغريب" أو الإسباني "على مضض" أمارات التواضع، هو الذي رسم كثيراً من الخطوط الرابطة بين مآسي القصف في البوسنة والعراق وفلسطين وغيرها من نقط الدمار والقتل، وراكم الزيارات إلى دم العالم المُراق هنا أو هناك.
على عكس خوان، يأتي كثير من الأدباء إلى مراكش على حبل الدعوات والميكروفونات وبياض اللباس ودلال التعرف على الأمكنة.
يأتون بهالة زائدة عن اللزوم.
ينزلون بأرقى الفنادق.
يقتصدون في كلامهم، كمن اكتشف عالماً غريباً عليه.
وحين يقصدون مكاتبهم، هناك بالشمال، يضيفون لياليهم المراكشية إلى حكايات ألف ليلة وليلة.
يكتفي خْوان بمجالسة ومعاشرة البسطاء بمقهى فرنسا والقنَّارية.
يتكلم كأب، ويمشي بين الناس كشيخ وقور.
خْوان الذي منحته اليونسكو شرف كتابة نص إعلان اعتبار ساحة جامع الفنا ضمن التراث الإنساني، اعترافاً منها بجهوده في الدفاع عن حق الساحة في إعمال الخيال والتحلي بكثير من الحس الجمالي عند كل محاولة لتوسيعها أو التغيير في ملامحها.
الجلوسُ إلى مقاهي شارع جليز، يُصبح بلا طُعم، حين تستبد بك الرغبة في ساحة جامع الفنا.
مساءات مراكش، خلال شهر يونيو، ساحرة.
هو سحر مراكش الذي يمتد إلى ساعات متأخرة من الليل.
جالساً إلى طاولة بمقهى التجار.
أتطلع إلى ساعة هاتفي المحمول.
السابعة والربع ... أحسنُ توقيت لزيارة جامع الفنا وشرب كأس شاي منعنع بمقهى فرنسا.
في لحظات ... كنتُ في الطريق إلى الساحة.
الحركة في أوجها.
مساء شارع جليز وفيٌّ لطقوسه وعاداته.
سياراتٌ ودراجاتٌ ناريةٌ وهوائيةٌ وراجلون لايقلُّون هوائيةً تتقاذفهم الأرصفةُ والطرقات.
الماكدونالدز غاص بشباب مغربي منفتح على العصر، وعلى بعضه البعض.
ساحة 16 نونبر تحتفي بماء نافورتها.
أما الكتبية ففي امتداد النظر.
تتوقف سيارة الأجرة.
فندق التازي، ثم سينما مبروكة ورائحة الشاورما المنبعثة من مطاعم "البرانس"، فبناية بنك المغرب.
عمقُ الساحة.
صفٌّ طويل من عربات عصير البرتقال في مواجهة بائعي الحلزون ودخان النقانق.
مقهى فْرنسا وخْوان جالس كعادته.
نفسُ الطاولة.
نفسُ الهدوء.
أترك خْوان جالساً إلى هدوئه وناسه.
أؤجل زيارة سوق السمارين إلى الغد، وأغوص في الساحة.
منظر قارئات الكف، ولهجتهن المراكشية، يؤكد لكَ أن قراءة المستقبل هي آخر ما جاء بهن إلى الساحة، وأنه سيكون عليك، وأنت جالسٌ إلى إحداهن، أن تغير الموضوع صوب فكاهة تعادل الدراهم التي ستمدها بعد أن تنقل لك صاحبة الخمار أمامك أن شقراء تنتظرك في أحلامها بعد غد، وأن وظيفة سامية فْ "المخزن" تنتظرك ببريقها ومالها وجاهها.
نقشٌ بالحناء ودعوات محرجة لتناول كأس عصير أو وجبة عشاء في الهواء الطلق.
حلقاتٌ تتناول الجوانب الخفية للحياة الجنسية، تخاطب في الرجل فحولته.
يُنشِّط الحلقات، في الغالب، شبانٌ يجتهدون في نقل الانطباع بأنهم سادة الفتوحات الجنسية.
يُدغدغون مشاعر المتحلقين حولهم، فيما يهيئونهم لشراء معجونٍ أو دهان يساعد ساعة لاينفع المرء لاماله ولاجاهه إلا فحولته، ساعة اختلائه بصاحبته.
أغاني ناس الغيوان ولمشاهب وجيل جيلالة تمنح الساحة نكهتها.
موسيقى كناوة وسوس والأطلس المتوسط والشاوية تخوض في تفاصيل الجغرافية المغربية.
عروض أولاد سيدي احْماد وْمُوسى ومباريات الملاكمة.
عالمٌ غريبٌ من الثرثرات والأعراق والمشاهد والمشاعر.
أهواءٌ مختلفةٌ ومتعددةٌ تحمل أصحابها لدخول عالم سحري يجمعُ دخان النقانق بمروضي الأفاعي والقردة، أما حلقات الحكْي فصارت تنسى، يوماً عن آخر، ملاحم سيف بن ذي يزن، وحكايات ألف ليلة وليلة، وبطولات عنترة بن شداد، وشجاعة سِيدْنا عَلِي في مواجهة راس الغول، بعد أن هجمت عليها فكاهة رصيف تتبنى الضحك الفارغ من دفء المكان.
مراكشْ ...
مدينةٌ تسكنها فتسكنك.
اهبطوا مراكش، فلكم فيها ماشئتم.
طقسٌ جميلٌ لمقاومة الرطوبة وبهجةٌ للترويح عن النفس.
مراكش