سحر الزمان … سحر المكان في “مراكش: أسرار معلنة” لياسين عدنان وسعد سرحان
فريدة العاطفي 07 يناير 2010
“الحكايا سر المدينة وهذه ليست مدينة. إنها الحكاية مغروسة في كف التاريخ”
من كتاب: “مراكش: أسرار معلنة”
“مراكش: أسرار معلنة” للشاعرين ياسين عدنان وسعد سرحان، كتاب مثير فعلا وقائم على أفق مفتوح بشكل استثنائي ومتفرد. الزمان فيه زمانان: زمان موضوعي وزمان رمزي, زمان واحد ومتعدد, زمان سكوني ومتحرك, زمان أنتروبولوجي وإبداعي, إنه بالدرجة الأولى زمان الحاضر, لكن الحاضر في مراكش وفي الكتاب ممتزج بالماضي بشكل يصعب فيه التمييز بينهما أحيانا, نقرأ من فصل “الوصايا الصارمة” ص66: “مراكش ليست مدينة. إنها أشبه بجلطة في دماغ الجغرافيا. همها الوحيد اللعب على أعصاب التاريخ المتوترة أبدا. داخل أزقتها تكاد بوصلة الوقت تجن”. نقرأ من نفس الصفحة: “لا تستغربن إذا ما صادفت الماضي والحاضر متعانقين في نهاية هذا الدرب أو ذاك. ولا تظنن بهما الظنون. إنها المدينة هكذا… تعيش زمنها الخاص خارج معاطف الأزمنة”، إننا هنا أمام التحام وترابط في الزمان بين الماضي والحاضر سيقابله امتزاج وتداخل وتشابك في مفهوم الزمن بين الليل والنهار أيضا, نقرأ من فصل “أسرار معلنة” ص44: “مراكش: صباحا يحل الليل/ ليلا يحل الصباح/ فكل كلام مباح/ ومباح.” نقرا أيضا من فصل “واحة الحكايا البتراء”: “الليل سيد الزمن المراكشي والنهار حرث له. إنهم يحرثون النهار ليحصده الليل حكايا” ص13. هذا التداخل في الأزمنة بين الليل والنهار/ الماضي والحاضر في الكتاب لا يلغي المستقبل, بقدر ما يمنحه نكهة خاصة ليتشكل بدوره من ليل ونهار يمتزجان ببعضهما, ويمدان جسورهما من الحاضر إلى الماضي عبر الحكاية. في وتيرة تدفع الزمان باتجاه إيقاع دائري يجعل المستقبل شبيها بحاضر يشبه بدوره الماضي, لكن هذا الزمان الدائري سرعان ما ينفتح على نداء خاص جدا, إنه نداء المدينة ذاتها نقرأ في الكتاب من فصل “واحة الحكايا البتراء” ص13: “النداء الذي يشتد ـ مثل موال غامض ـ يشتد ابعد بكثير من بوابات المدينة. إنه النداء العابر للقرون والقارات”.
زيارة لباشلار:
أمام خصوبة مماثلة في طرح مفهوم الزمان, نحس أننا قريبون بشكل حميمي وأليف من مفهوم الزمان عند الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار, ولكننا أيضا منفصلون عنه وبعيدون بمجرات كونية. بعيدون ومنفصلون لأن باشلار افتتن باللحظة/الزمن الحاضر, في وهج الحاضر تزداد اللحظة الباشلارية شموخا فتحدث القطيعة مع الماضي بما يؤثر على المعرفة, لتتحقق “القطيعة الابستمولوجية” أحد المفاهيم الأكثر قوة في الابستومولوجيا. وهو ما نجد نقيضه في زمان “مراكش: أسرار معلنة” حيث التواصل والامتداد والعناق المشتعل بين الأزمنة, أجد هنا التعبير المدرج أعلاه: “بوصلة الوقت(في مراكش) تكاد تجن” تعبيرا مرنا ودقيقا جدا في احتواء خصوصية الزمان في مراكش وألوانها البديعة. ومع ذلك ـ ورغم المسافة ـ فنحن قريبون من باشلار لأن زمانه المنفصل هو أيضا زمان معلق/ زمان خارج الزمان(1), تماما كزمان مراكش, حتى أن الشاعرين كادا يقتربان من تعبير باشلار, هو تحدث عن “زمان خارج الأزمنة”, وهما كتبا عن “زمن خارج معاطف الأزمنة” في مقطع مدرج أعلاه: ” تعيش (مراكش) زمنها خارج معاطف الأزمنة”.
عشبة الخلود:
هكذا احتفى الكتاب بزمان مراكش وزمنها ليس فقط معرفيا وبشكل يقظ عبر الوعي, ولكن عبر شهب اللاوعي الأكثر جنونا. نقرأ في الكتاب وهو يتحدث عن أحفاد هارون الرشيد الرمزيين: “ولقد مرت قرون وقرون/ فجاءوا جميعا يبحثون/ عن الفردوس المفقود/ وكما حدث لجلجماش/ وصلوا إلى مراكش/ يطلبون/ عشبة الخلود” ص51 من فصل: “مراكش بنت بغداد”.
عشبة الخلود لجلجماش هي إحدى رموز أقوى أساطير الحضارة السومرية, اشتغلت الأسطورة على الزمان ورغبت في السيطرة على جريانه المنفلت, والقضاء على إحساس الإنسان بالضآلة أمامه. بإدراجها اقترب الكتاب في مفهومه للزمان من حلم بعيد و منفلت ومتوغل في التاريخ وفي روح الإنسان. حين يصبح الزمان عتيقا وحديثا ومتشابها في صيرورته وشبه أزلي ألا يقود إلى حلم فاوست الأكثر اشتعالا؟ وهو حلم الخلود.ذلك هو الحلم اللاواعي في أبعاده الجماعية الذي قد تمنحه مراكش, وجزء من ذكاء الكتاب أنه اقترب من هذه المنطقة الحساسة جدا للمدينة وتأثيرها على العقل الباطن للإنسان. ولا يهمنا هل تم ذلك عبر دروب الوعي المعروفة؟ أم على أجنحة طيور اللاوعي المحلقة دائما في جزر مجهولة؟
شيء من الفلسفة:
تداخل في الأزمنة و”نداء عابر للقرون والقارات” سيجعل الزمان في “مراكش: أسرار معلنة” ينفلت من الإطار الكلاسيكي ليدخل في أفق مفتوح… في شروق وغروب معا, وفي لعبة فريدة من نوعها, جعلت الكتاب وهو يدري ولا يدري يدخل في صلب النقاشات الفلسفية الكبرى حول مفهوم الزمان, وهي نقاشات احتضنتها سماءات الفلسفة على امتداد قرون منذ الفكر الميثولوجي لحضارات الشرق ووادي الرافدين ووادي النيل, والفلاسفة القدماء منهم اليونانيون منذ سقراط تحديدا فأفلاطون وأفلوطين وأرسطو, إلى الفلسفة الأوروبية مع ديكارت وليبنز وسبينوزا وصولا إلى انفتاحها (الفلسفة) على الفيزياء مع نيوتن, إلى مفهوم النسبية لأينشتين, دون أن ننسى مساهمات الفلسفة الإسلامية مع الكندي والغزالي وابن سينا والشيزاري إلى ابن رشد. هل “الزمان جوهر منفصل عن المادة”؟ بتعبير صدر الدين الشيزاري, بمعنى هل الزمان مستقل عن المكان؟ على خلاف كانط مثلا في فلسفته النقدية حيث الأولوية القصوى للزمان, في “مراكش أسرار معلنة” لا زمان بدون مكان, بل المكان هو الذي يحدد للزمان طبيعته, فهذا الزمان المفتوح هو امتداد ومرآة صافية لمكان مفتوح هو فضاء مراكش الشامخ في جنوب المغرب, وبذلك نكون اقرب إلى مفهوم الزمان في العمل الروائي حيث للمكان أهميته, لكن في كتابنا المكان يتجاوز الزمان, ربما هذا ما يفسر ميل الكتاب إلى استعمال مفهوم “الزمن” الذي يعني الوقت, عوض “الزمان” الذي هو توالي الفصول والسنين. فالكتاب يتحدث عن مراكش الحالية وزمنها الحالي, وفي هذا الزمن الحالي أزمنة عديدة ومفتوحة تضعنا وجها لوجه أمام مراوغة لغوية مثيرة يبدو فيها مفهوم” الزمن” أرحب من مفهوم” الزمان”. إنه لاوعي النص وذكائه وقدرته على إخفاء أسراره, ويعلمنا الدرس السيمولوجي والسيميائي الغوص في متناقضاته وفي الأبعد للوصول إلى المعنى وفتنته القوية.
مراكش بنت بغداد:
قلنا مكان مفتوح ويصل بشساعته الباهرة إلى بغداد, لذلك خصص الكتاب فصلا متكاملا للعلاقة بين مراكش وبغداد, نقرأ من الفصل المذكور وعنوانه “مراكش بنت بغداد”: “مراكش بنت بغداد/ لأبي نواس بها أحفاد/ رياضاتها قصور الرشيد/ وقد انتشرت/ بين الأزقة
والحواري/ وجواريها/ كأنهن الجواري” ص51 , نقرأ أيضا: “مراكش: /عاصمة عباسية/ لم
لم يحكمها الرشيد” ص41 من فصل: ” أسرار معلنة”.
وبغداد تحضر هنا ببعدها الحقيقي كأحد أهم عواصم الحضارة العربية الإسلامية, وترمز كذلك لأكثر من عاصمة عربية, للقاهرة في عزها, وللشام في مجدها, وللأندلس في شموخها, ولفاس يوم كانت بدورها” بنتا” للأندلس..الخ , وهكذا لا تنتهي الوجوه المتعددة لبغداد/ أقصد مراكش. لذلك اعتبر الكتاب مراكش بنتا لبغداد, إنها ليست بغداد ولكنها حاملة لجيناتها الوراثية. طريقة السرد ذاتها في هذا الفصل تقوم على نوع من التداخل بين المدينتين, ونحن نتجول بين صفحاته يمكن أن نتوه أكثر من مرة, فنتصور أننا نقرأ عن مراكش لنفاجئ بهذا المقطع من ص52 ” لكن, هذه بغداد/ فأين مراكش؟” وقد يحدث العكس أيضا.
أنسنة المكان ؟ أم شعرية المكان؟
بهذا الزخم قدم لنا الكتاب فضاء مراكش كمكان حميمي, ولا مجال فيه لمفهوم الاغتراب في العلاقة بالمكان بالشكل الذي تحدث عنه التحليل النفسي منذ سيجموند فرويد, واهتم به في تمظهراته الاجتماعية بعد ذلك علم النفس الاجتماعي, بل هو مكان أليف وقريب جدا من الإنسان قد تصل العلاقة معه درجة التماهي, نقرأ في فصل” أسرار معلنة”ص41: “مراكش/
حصتها من البهاء/ حصتها من نفسه”. ما المقصود بهذه الأبيات؟ ومن هو هذا الذي يعيش هذا التماهي مع مراكش؟ هل هو الشاعر؟ هل هو السائح العابر؟ هل هو المراكشي؟ واحد من هؤلاء الذين وصفهم الكتاب في فصل “الوصايا الصارمة”: “بأنهم اختاروا لأنفسهم الإقامة الأبدية في البين بين”ص66 أيا كان هذا الذي يعتبر حصة مراكش من البهاء هي حصته من نفسه, فالتماهي هنا يعبر عن درجة عالية في القرب من المدينة تطرح مفهوم الانتماء بديلا لمفهوم الاغتراب. فهذا مكان حي ونابض وكريم ومضياف وقلبه مشرع الأبواب نقرأ من الكتاب فصل “واحة الحكايا البتراء” ص16: “منذ البوابة يشتد النداء / إنها دعوة كريمة إلى الداخل حيث: / كل شبر سر/ وكل خطوة جذوة /تمتصك/ صوب الأعماق” ربما لهذا السبب ونظرا لطبيعة الفضاء اختار الكتاب أنسنة المكان كبعد جمالي رفيع(2) يذكرنا بأنسنة المكان في أبعادها القوية والخصبة كما عرفناها عند “عبد الرحمن منيف” ولم يكن وحده. بهذا الأفق كان لمراكش حواس ومسام واستعارات فهي حسب فصل “أسرار معلنة” : “جارية دائمة الصبا” و”الوردة توأم النخلة” “وهي نؤوم الضحى استيقظت بعد قرون” بل إن كل أبوابها ومكتباتها ونباتاتها وجدرانها وساحاتها وأقواسها لها وجوه ونهود وأيد, ويخيل إلينا أنها مثلنا تحن وتشتاق وتبكي وتغري وتنام وتستيقظ لتقف شاهدة على عبورنا وشموخ مراكش.
سفر عبر الأجناس الإبداعية… سفر عبر الأزمنة:
سحر الزمان… سحر المكان في “مراكش: أسرار معلنة” سيلقي بظلاله على مختلف تفاصيل الكتاب, بما فيها بنيته التركيبية, وهو قدم باللغة العربية مع ترجمة فرنسية مصاحبة, قام بها المترجمان عبد القادر هجام وحميد جسوس, وقد اختارا شأنهما شأن الشاعرين ألا يعلنا عن أسرارهما, نعرف عنهما, أنهما من قام بترجمة الكتاب, دون معرفة من؟ ترجم ماذا؟ جاءت الترجمة بشكل تقابلي, فكل فصل باللغة العربية يقابله فصل باللغة الفرنسية صفحة صفحة, بما يمنح بعدا آخر لزمان مراكش كزمان عتيق وكوني في مكان عابق بسحر التاريخ, وفاتح أبوابه وأسراره للآخر الذي يتكلم بلسان آخر والقادم من حضارة أخرى.
هذا التقابل بين الفصول في لغتيها العربية والفرنسية جعل الكتاب قابلا للقراءة من اليمين إلى الشمال فالعكس, فصله الأول مثلا معنون بـ”ومكتباتها أيضا” يبدأ مع ص 80 أما الفصل الأخير وهو “واحة الحكايا البتراء” فهو يبدأ مع ص16 هذا الذهاب والإياب من اليمين إلى الشمال, ومن الشمال إلى اليمين بين اللغتين, يقابله على مستوى وتيرة الزمان, ذهاب وإياب متواصلان من الماضي إلى الحاضر, ومن الحاضر إلى الماضي وهكذا. نحن أمام شعرية حقيقية لزمان متفرد حاضر, ومتحكم حتى في اختيار الجنس الأدبي للكتاب. إذ يمكن اعتبار “مراكش: أسرار معلنة ” سفرا بجنون العشاق بين مختلف الأجناس الأدبية من فن المقال, (إذ كتب على شكل مقالات يمتزج فيها المقال الصحافي بالمقال الأدبي ) إلى الحكاية… إلى القصة…إلى الاحتفاء بالصورة بشكل يذكرنا بالوصف في العمل الروائي والسينمائي,بل إنك حين تغوص فيه, وتقرأه بحواسك, ستحس أنه يصلح أن يتحول إلى وثائقي عن مراكش, ليبقى الشعر بكل أبعاده أمير الأجناس الأدبية. هنا شعر نثري ونثر يشبه الشعر, وقصائد شعرية منثورة تغيب عن الشعر لتشبه نفسها, أو تشبه نمطا إبداعيا آخر قد تحمله لنا التحولات القادمة. هذه الكتابة العابرة للأجناس الإبداعية كلها, المحتضنة والمتجاوزة لها, تكشف نوعا جديدا من الكتابة الإبداعية, وهو نوع جاء في الكتاب مخلصا لشفافية الزمان, فكل جنس إبداعي هو إفراز لمرحلة تاريخية معينة لها خصوصياتها الاجتماعية, ومحكومة بشروط سياسية واقتصادية وثقافية, وأن يختار الكتاب الانتماء إلى كل هذه الأجناس الإبداعية, فهو يختار أيضا الانتماء إلى أزمنتها المختلفة. القاموس المعجمي واللغة بدورها تبدو تابعة لهذا النسق, فهناك كلمات حديثة جدا, وكلمات عتيقة جدا… كلمات شاعرية, وكلمات علمية… كلمات من الدارجة المغربية… وكلمات لا نعرف من أين أتت؟ وسط بريق هذه الكلمات جاءت اللغة في الكتاب بالغة الثراء في دلالاتها وجماليتها البلاغية بما يحتاج فعلا إلى اشتغال منفرد.
كتاب… أم حلقة؟
احتفى الكتاب بطريقة طريفة جدا بالتاريخ, فذكر لنا بعض الأحداث التي يمكن اعتبارها ذات طابع تاريخي, مثل انتشار العلاقات المثلية في مراكش وقبلها بغداد, وأخبار عن شاعر الحمراء محمد ابن إبراهيم المراكشي..الخ, دون إشارة تذكر للمصادر التاريخية, لكن أحيانا وبجدية بالغة, كان الشاعران يضعان الأحداث بين قوسين, فنكاد نصدق بأن الأمر يتعلق بإحالة تاريخية هامة مثل ما حصل ونحن نقرأ في:” فصل الوصايا الصارمة” عن وثيقة خطية خلفها الشاعر محمد ابن إبراهيم بين أوراقه, لنفاجأ بعد انتهاء الخبر بجملة من الفصل ذاته “هل صدقت خط الشاعر؟ إذن, أنت لم تفهم معنى أن يكون الشاعر مراكشيا” ص65 هكذا تحول الكتاب بحد ذاته إلى حلقة الرواة فيها لا يذكرون مصادرهم التاريخية, ويكتفون بجملة (العهدة علينا).
ذلك سر الحلقة لا شيء فيها جدي, والسائح يدرك ذلك وينجرف إلى لا يقين أسطورة من نوع حديث لا تشبه فيه إلا ذاتها. قد نلخص القول: بإن الكتاب كتب على طريقة رواية الأحداث في
الحلقة, فأصبح بدوره حلقة مكتوبة نقلت الشفهي إلى المكتوب ضمن تصور رحب للكتابة صوره فصل “ومكتباتها أيضا” فيه يصبح “كل سقف منقوش, وكل آنية نحاس, وكل زربية بليغة, وكل شيخ طاعن في الحكايا, كل قفطان, كل كف محناة, كل شيء كتاب”. أما الكتاب فقد تحول إلى حلقة إذ استعار تقنياتها في الحكاية وسافر بعيدا…
مدينة بعشر أصابع… كتاب بعشر فصول:
صور الكتاب مراكش كإنسان, وتحدث كثيرا في فصل “واحة الحكايا البتراء”عن يدها فهي “يد هائلة. يد كلها أصابع. أصابع طويلة.متعرجة. أخطبوطية”ص15 وللإنسان يدان وكفان وعدد الأصابع عشرة, ربما لذلك جاء الكتاب بعشر فصول تماهيا مع الإنسان, ولرفع الأنسنة إلى أعلى مستوياتها في تحقيق شعرية فاتنة للمكان. أما الكف الواحدة فهي:”كف ليست كباقي الأكف…كف يتجلى فيها الماضي بألسنته الكثيرة.ذاكرة في راحة اليد ” ص14 شبه الكتاب جامع الفنا بكف مراكش. أما كف الكتاب بأصابعه الخمسة فهو فصله الخامس, لذلك ربما اقتبس منه عنوان الكتاب. الفصل الخامس هو قلب الكتاب وهو سره المعلن عن قلب الشاعرين من خلاله قال كل واحد منهما: إنه في أوج احتفائه بالمكان وزمانه, وفي أوج احتفائه بكل الأجناس الإبداعية… تبقى “الهوية شاعر”.
تنويه
* “مراكش: أسرار معلنة” للشاعرين ياسين عدنان وسعد سرحان. صدر عن دار مرسم سنة2008 جاء مصحوبا بترجمة فرنسية قام بها عبد القادر هجام وحميد جاسوس. قدمه الكاتب الاسباني خوان غويتيصولو. الغلاف للفنان محمد نبيلي.
نشير هنا إلى مقال جميل عن باشلار بعنوان” باشلار فيلسوف الزمان” ترجمة د سعيد بوخليط . عن القدس العربي 10ـ11ـ 2006
سبق للأستاذ عبد المنعم الشنتوف في مقاربة له عن كتاب ” مراكش أسرار معلنة ” أن أشار إلى أنسنة المكان ودلالاتها في الكتاب. انظر: عبد المنعم الشنتوف ” لعبة التخفي في الأسرار المعلنة لمراكش” عن
موقع جهة الشعر.
فريدة العاطفي 07 يناير 2010
“الحكايا سر المدينة وهذه ليست مدينة. إنها الحكاية مغروسة في كف التاريخ”
من كتاب: “مراكش: أسرار معلنة”
“مراكش: أسرار معلنة” للشاعرين ياسين عدنان وسعد سرحان، كتاب مثير فعلا وقائم على أفق مفتوح بشكل استثنائي ومتفرد. الزمان فيه زمانان: زمان موضوعي وزمان رمزي, زمان واحد ومتعدد, زمان سكوني ومتحرك, زمان أنتروبولوجي وإبداعي, إنه بالدرجة الأولى زمان الحاضر, لكن الحاضر في مراكش وفي الكتاب ممتزج بالماضي بشكل يصعب فيه التمييز بينهما أحيانا, نقرأ من فصل “الوصايا الصارمة” ص66: “مراكش ليست مدينة. إنها أشبه بجلطة في دماغ الجغرافيا. همها الوحيد اللعب على أعصاب التاريخ المتوترة أبدا. داخل أزقتها تكاد بوصلة الوقت تجن”. نقرأ من نفس الصفحة: “لا تستغربن إذا ما صادفت الماضي والحاضر متعانقين في نهاية هذا الدرب أو ذاك. ولا تظنن بهما الظنون. إنها المدينة هكذا… تعيش زمنها الخاص خارج معاطف الأزمنة”، إننا هنا أمام التحام وترابط في الزمان بين الماضي والحاضر سيقابله امتزاج وتداخل وتشابك في مفهوم الزمن بين الليل والنهار أيضا, نقرأ من فصل “أسرار معلنة” ص44: “مراكش: صباحا يحل الليل/ ليلا يحل الصباح/ فكل كلام مباح/ ومباح.” نقرا أيضا من فصل “واحة الحكايا البتراء”: “الليل سيد الزمن المراكشي والنهار حرث له. إنهم يحرثون النهار ليحصده الليل حكايا” ص13. هذا التداخل في الأزمنة بين الليل والنهار/ الماضي والحاضر في الكتاب لا يلغي المستقبل, بقدر ما يمنحه نكهة خاصة ليتشكل بدوره من ليل ونهار يمتزجان ببعضهما, ويمدان جسورهما من الحاضر إلى الماضي عبر الحكاية. في وتيرة تدفع الزمان باتجاه إيقاع دائري يجعل المستقبل شبيها بحاضر يشبه بدوره الماضي, لكن هذا الزمان الدائري سرعان ما ينفتح على نداء خاص جدا, إنه نداء المدينة ذاتها نقرأ في الكتاب من فصل “واحة الحكايا البتراء” ص13: “النداء الذي يشتد ـ مثل موال غامض ـ يشتد ابعد بكثير من بوابات المدينة. إنه النداء العابر للقرون والقارات”.
زيارة لباشلار:
أمام خصوبة مماثلة في طرح مفهوم الزمان, نحس أننا قريبون بشكل حميمي وأليف من مفهوم الزمان عند الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار, ولكننا أيضا منفصلون عنه وبعيدون بمجرات كونية. بعيدون ومنفصلون لأن باشلار افتتن باللحظة/الزمن الحاضر, في وهج الحاضر تزداد اللحظة الباشلارية شموخا فتحدث القطيعة مع الماضي بما يؤثر على المعرفة, لتتحقق “القطيعة الابستمولوجية” أحد المفاهيم الأكثر قوة في الابستومولوجيا. وهو ما نجد نقيضه في زمان “مراكش: أسرار معلنة” حيث التواصل والامتداد والعناق المشتعل بين الأزمنة, أجد هنا التعبير المدرج أعلاه: “بوصلة الوقت(في مراكش) تكاد تجن” تعبيرا مرنا ودقيقا جدا في احتواء خصوصية الزمان في مراكش وألوانها البديعة. ومع ذلك ـ ورغم المسافة ـ فنحن قريبون من باشلار لأن زمانه المنفصل هو أيضا زمان معلق/ زمان خارج الزمان(1), تماما كزمان مراكش, حتى أن الشاعرين كادا يقتربان من تعبير باشلار, هو تحدث عن “زمان خارج الأزمنة”, وهما كتبا عن “زمن خارج معاطف الأزمنة” في مقطع مدرج أعلاه: ” تعيش (مراكش) زمنها خارج معاطف الأزمنة”.
عشبة الخلود:
هكذا احتفى الكتاب بزمان مراكش وزمنها ليس فقط معرفيا وبشكل يقظ عبر الوعي, ولكن عبر شهب اللاوعي الأكثر جنونا. نقرأ في الكتاب وهو يتحدث عن أحفاد هارون الرشيد الرمزيين: “ولقد مرت قرون وقرون/ فجاءوا جميعا يبحثون/ عن الفردوس المفقود/ وكما حدث لجلجماش/ وصلوا إلى مراكش/ يطلبون/ عشبة الخلود” ص51 من فصل: “مراكش بنت بغداد”.
عشبة الخلود لجلجماش هي إحدى رموز أقوى أساطير الحضارة السومرية, اشتغلت الأسطورة على الزمان ورغبت في السيطرة على جريانه المنفلت, والقضاء على إحساس الإنسان بالضآلة أمامه. بإدراجها اقترب الكتاب في مفهومه للزمان من حلم بعيد و منفلت ومتوغل في التاريخ وفي روح الإنسان. حين يصبح الزمان عتيقا وحديثا ومتشابها في صيرورته وشبه أزلي ألا يقود إلى حلم فاوست الأكثر اشتعالا؟ وهو حلم الخلود.ذلك هو الحلم اللاواعي في أبعاده الجماعية الذي قد تمنحه مراكش, وجزء من ذكاء الكتاب أنه اقترب من هذه المنطقة الحساسة جدا للمدينة وتأثيرها على العقل الباطن للإنسان. ولا يهمنا هل تم ذلك عبر دروب الوعي المعروفة؟ أم على أجنحة طيور اللاوعي المحلقة دائما في جزر مجهولة؟
شيء من الفلسفة:
تداخل في الأزمنة و”نداء عابر للقرون والقارات” سيجعل الزمان في “مراكش: أسرار معلنة” ينفلت من الإطار الكلاسيكي ليدخل في أفق مفتوح… في شروق وغروب معا, وفي لعبة فريدة من نوعها, جعلت الكتاب وهو يدري ولا يدري يدخل في صلب النقاشات الفلسفية الكبرى حول مفهوم الزمان, وهي نقاشات احتضنتها سماءات الفلسفة على امتداد قرون منذ الفكر الميثولوجي لحضارات الشرق ووادي الرافدين ووادي النيل, والفلاسفة القدماء منهم اليونانيون منذ سقراط تحديدا فأفلاطون وأفلوطين وأرسطو, إلى الفلسفة الأوروبية مع ديكارت وليبنز وسبينوزا وصولا إلى انفتاحها (الفلسفة) على الفيزياء مع نيوتن, إلى مفهوم النسبية لأينشتين, دون أن ننسى مساهمات الفلسفة الإسلامية مع الكندي والغزالي وابن سينا والشيزاري إلى ابن رشد. هل “الزمان جوهر منفصل عن المادة”؟ بتعبير صدر الدين الشيزاري, بمعنى هل الزمان مستقل عن المكان؟ على خلاف كانط مثلا في فلسفته النقدية حيث الأولوية القصوى للزمان, في “مراكش أسرار معلنة” لا زمان بدون مكان, بل المكان هو الذي يحدد للزمان طبيعته, فهذا الزمان المفتوح هو امتداد ومرآة صافية لمكان مفتوح هو فضاء مراكش الشامخ في جنوب المغرب, وبذلك نكون اقرب إلى مفهوم الزمان في العمل الروائي حيث للمكان أهميته, لكن في كتابنا المكان يتجاوز الزمان, ربما هذا ما يفسر ميل الكتاب إلى استعمال مفهوم “الزمن” الذي يعني الوقت, عوض “الزمان” الذي هو توالي الفصول والسنين. فالكتاب يتحدث عن مراكش الحالية وزمنها الحالي, وفي هذا الزمن الحالي أزمنة عديدة ومفتوحة تضعنا وجها لوجه أمام مراوغة لغوية مثيرة يبدو فيها مفهوم” الزمن” أرحب من مفهوم” الزمان”. إنه لاوعي النص وذكائه وقدرته على إخفاء أسراره, ويعلمنا الدرس السيمولوجي والسيميائي الغوص في متناقضاته وفي الأبعد للوصول إلى المعنى وفتنته القوية.
مراكش بنت بغداد:
قلنا مكان مفتوح ويصل بشساعته الباهرة إلى بغداد, لذلك خصص الكتاب فصلا متكاملا للعلاقة بين مراكش وبغداد, نقرأ من الفصل المذكور وعنوانه “مراكش بنت بغداد”: “مراكش بنت بغداد/ لأبي نواس بها أحفاد/ رياضاتها قصور الرشيد/ وقد انتشرت/ بين الأزقة
والحواري/ وجواريها/ كأنهن الجواري” ص51 , نقرأ أيضا: “مراكش: /عاصمة عباسية/ لم
لم يحكمها الرشيد” ص41 من فصل: ” أسرار معلنة”.
وبغداد تحضر هنا ببعدها الحقيقي كأحد أهم عواصم الحضارة العربية الإسلامية, وترمز كذلك لأكثر من عاصمة عربية, للقاهرة في عزها, وللشام في مجدها, وللأندلس في شموخها, ولفاس يوم كانت بدورها” بنتا” للأندلس..الخ , وهكذا لا تنتهي الوجوه المتعددة لبغداد/ أقصد مراكش. لذلك اعتبر الكتاب مراكش بنتا لبغداد, إنها ليست بغداد ولكنها حاملة لجيناتها الوراثية. طريقة السرد ذاتها في هذا الفصل تقوم على نوع من التداخل بين المدينتين, ونحن نتجول بين صفحاته يمكن أن نتوه أكثر من مرة, فنتصور أننا نقرأ عن مراكش لنفاجئ بهذا المقطع من ص52 ” لكن, هذه بغداد/ فأين مراكش؟” وقد يحدث العكس أيضا.
أنسنة المكان ؟ أم شعرية المكان؟
بهذا الزخم قدم لنا الكتاب فضاء مراكش كمكان حميمي, ولا مجال فيه لمفهوم الاغتراب في العلاقة بالمكان بالشكل الذي تحدث عنه التحليل النفسي منذ سيجموند فرويد, واهتم به في تمظهراته الاجتماعية بعد ذلك علم النفس الاجتماعي, بل هو مكان أليف وقريب جدا من الإنسان قد تصل العلاقة معه درجة التماهي, نقرأ في فصل” أسرار معلنة”ص41: “مراكش/
حصتها من البهاء/ حصتها من نفسه”. ما المقصود بهذه الأبيات؟ ومن هو هذا الذي يعيش هذا التماهي مع مراكش؟ هل هو الشاعر؟ هل هو السائح العابر؟ هل هو المراكشي؟ واحد من هؤلاء الذين وصفهم الكتاب في فصل “الوصايا الصارمة”: “بأنهم اختاروا لأنفسهم الإقامة الأبدية في البين بين”ص66 أيا كان هذا الذي يعتبر حصة مراكش من البهاء هي حصته من نفسه, فالتماهي هنا يعبر عن درجة عالية في القرب من المدينة تطرح مفهوم الانتماء بديلا لمفهوم الاغتراب. فهذا مكان حي ونابض وكريم ومضياف وقلبه مشرع الأبواب نقرأ من الكتاب فصل “واحة الحكايا البتراء” ص16: “منذ البوابة يشتد النداء / إنها دعوة كريمة إلى الداخل حيث: / كل شبر سر/ وكل خطوة جذوة /تمتصك/ صوب الأعماق” ربما لهذا السبب ونظرا لطبيعة الفضاء اختار الكتاب أنسنة المكان كبعد جمالي رفيع(2) يذكرنا بأنسنة المكان في أبعادها القوية والخصبة كما عرفناها عند “عبد الرحمن منيف” ولم يكن وحده. بهذا الأفق كان لمراكش حواس ومسام واستعارات فهي حسب فصل “أسرار معلنة” : “جارية دائمة الصبا” و”الوردة توأم النخلة” “وهي نؤوم الضحى استيقظت بعد قرون” بل إن كل أبوابها ومكتباتها ونباتاتها وجدرانها وساحاتها وأقواسها لها وجوه ونهود وأيد, ويخيل إلينا أنها مثلنا تحن وتشتاق وتبكي وتغري وتنام وتستيقظ لتقف شاهدة على عبورنا وشموخ مراكش.
سفر عبر الأجناس الإبداعية… سفر عبر الأزمنة:
سحر الزمان… سحر المكان في “مراكش: أسرار معلنة” سيلقي بظلاله على مختلف تفاصيل الكتاب, بما فيها بنيته التركيبية, وهو قدم باللغة العربية مع ترجمة فرنسية مصاحبة, قام بها المترجمان عبد القادر هجام وحميد جسوس, وقد اختارا شأنهما شأن الشاعرين ألا يعلنا عن أسرارهما, نعرف عنهما, أنهما من قام بترجمة الكتاب, دون معرفة من؟ ترجم ماذا؟ جاءت الترجمة بشكل تقابلي, فكل فصل باللغة العربية يقابله فصل باللغة الفرنسية صفحة صفحة, بما يمنح بعدا آخر لزمان مراكش كزمان عتيق وكوني في مكان عابق بسحر التاريخ, وفاتح أبوابه وأسراره للآخر الذي يتكلم بلسان آخر والقادم من حضارة أخرى.
هذا التقابل بين الفصول في لغتيها العربية والفرنسية جعل الكتاب قابلا للقراءة من اليمين إلى الشمال فالعكس, فصله الأول مثلا معنون بـ”ومكتباتها أيضا” يبدأ مع ص 80 أما الفصل الأخير وهو “واحة الحكايا البتراء” فهو يبدأ مع ص16 هذا الذهاب والإياب من اليمين إلى الشمال, ومن الشمال إلى اليمين بين اللغتين, يقابله على مستوى وتيرة الزمان, ذهاب وإياب متواصلان من الماضي إلى الحاضر, ومن الحاضر إلى الماضي وهكذا. نحن أمام شعرية حقيقية لزمان متفرد حاضر, ومتحكم حتى في اختيار الجنس الأدبي للكتاب. إذ يمكن اعتبار “مراكش: أسرار معلنة ” سفرا بجنون العشاق بين مختلف الأجناس الأدبية من فن المقال, (إذ كتب على شكل مقالات يمتزج فيها المقال الصحافي بالمقال الأدبي ) إلى الحكاية… إلى القصة…إلى الاحتفاء بالصورة بشكل يذكرنا بالوصف في العمل الروائي والسينمائي,بل إنك حين تغوص فيه, وتقرأه بحواسك, ستحس أنه يصلح أن يتحول إلى وثائقي عن مراكش, ليبقى الشعر بكل أبعاده أمير الأجناس الأدبية. هنا شعر نثري ونثر يشبه الشعر, وقصائد شعرية منثورة تغيب عن الشعر لتشبه نفسها, أو تشبه نمطا إبداعيا آخر قد تحمله لنا التحولات القادمة. هذه الكتابة العابرة للأجناس الإبداعية كلها, المحتضنة والمتجاوزة لها, تكشف نوعا جديدا من الكتابة الإبداعية, وهو نوع جاء في الكتاب مخلصا لشفافية الزمان, فكل جنس إبداعي هو إفراز لمرحلة تاريخية معينة لها خصوصياتها الاجتماعية, ومحكومة بشروط سياسية واقتصادية وثقافية, وأن يختار الكتاب الانتماء إلى كل هذه الأجناس الإبداعية, فهو يختار أيضا الانتماء إلى أزمنتها المختلفة. القاموس المعجمي واللغة بدورها تبدو تابعة لهذا النسق, فهناك كلمات حديثة جدا, وكلمات عتيقة جدا… كلمات شاعرية, وكلمات علمية… كلمات من الدارجة المغربية… وكلمات لا نعرف من أين أتت؟ وسط بريق هذه الكلمات جاءت اللغة في الكتاب بالغة الثراء في دلالاتها وجماليتها البلاغية بما يحتاج فعلا إلى اشتغال منفرد.
كتاب… أم حلقة؟
احتفى الكتاب بطريقة طريفة جدا بالتاريخ, فذكر لنا بعض الأحداث التي يمكن اعتبارها ذات طابع تاريخي, مثل انتشار العلاقات المثلية في مراكش وقبلها بغداد, وأخبار عن شاعر الحمراء محمد ابن إبراهيم المراكشي..الخ, دون إشارة تذكر للمصادر التاريخية, لكن أحيانا وبجدية بالغة, كان الشاعران يضعان الأحداث بين قوسين, فنكاد نصدق بأن الأمر يتعلق بإحالة تاريخية هامة مثل ما حصل ونحن نقرأ في:” فصل الوصايا الصارمة” عن وثيقة خطية خلفها الشاعر محمد ابن إبراهيم بين أوراقه, لنفاجأ بعد انتهاء الخبر بجملة من الفصل ذاته “هل صدقت خط الشاعر؟ إذن, أنت لم تفهم معنى أن يكون الشاعر مراكشيا” ص65 هكذا تحول الكتاب بحد ذاته إلى حلقة الرواة فيها لا يذكرون مصادرهم التاريخية, ويكتفون بجملة (العهدة علينا).
ذلك سر الحلقة لا شيء فيها جدي, والسائح يدرك ذلك وينجرف إلى لا يقين أسطورة من نوع حديث لا تشبه فيه إلا ذاتها. قد نلخص القول: بإن الكتاب كتب على طريقة رواية الأحداث في
الحلقة, فأصبح بدوره حلقة مكتوبة نقلت الشفهي إلى المكتوب ضمن تصور رحب للكتابة صوره فصل “ومكتباتها أيضا” فيه يصبح “كل سقف منقوش, وكل آنية نحاس, وكل زربية بليغة, وكل شيخ طاعن في الحكايا, كل قفطان, كل كف محناة, كل شيء كتاب”. أما الكتاب فقد تحول إلى حلقة إذ استعار تقنياتها في الحكاية وسافر بعيدا…
مدينة بعشر أصابع… كتاب بعشر فصول:
صور الكتاب مراكش كإنسان, وتحدث كثيرا في فصل “واحة الحكايا البتراء”عن يدها فهي “يد هائلة. يد كلها أصابع. أصابع طويلة.متعرجة. أخطبوطية”ص15 وللإنسان يدان وكفان وعدد الأصابع عشرة, ربما لذلك جاء الكتاب بعشر فصول تماهيا مع الإنسان, ولرفع الأنسنة إلى أعلى مستوياتها في تحقيق شعرية فاتنة للمكان. أما الكف الواحدة فهي:”كف ليست كباقي الأكف…كف يتجلى فيها الماضي بألسنته الكثيرة.ذاكرة في راحة اليد ” ص14 شبه الكتاب جامع الفنا بكف مراكش. أما كف الكتاب بأصابعه الخمسة فهو فصله الخامس, لذلك ربما اقتبس منه عنوان الكتاب. الفصل الخامس هو قلب الكتاب وهو سره المعلن عن قلب الشاعرين من خلاله قال كل واحد منهما: إنه في أوج احتفائه بالمكان وزمانه, وفي أوج احتفائه بكل الأجناس الإبداعية… تبقى “الهوية شاعر”.
تنويه
* “مراكش: أسرار معلنة” للشاعرين ياسين عدنان وسعد سرحان. صدر عن دار مرسم سنة2008 جاء مصحوبا بترجمة فرنسية قام بها عبد القادر هجام وحميد جاسوس. قدمه الكاتب الاسباني خوان غويتيصولو. الغلاف للفنان محمد نبيلي.
نشير هنا إلى مقال جميل عن باشلار بعنوان” باشلار فيلسوف الزمان” ترجمة د سعيد بوخليط . عن القدس العربي 10ـ11ـ 2006
سبق للأستاذ عبد المنعم الشنتوف في مقاربة له عن كتاب ” مراكش أسرار معلنة ” أن أشار إلى أنسنة المكان ودلالاتها في الكتاب. انظر: عبد المنعم الشنتوف ” لعبة التخفي في الأسرار المعلنة لمراكش” عن
موقع جهة الشعر.