«أركانة».. اغتيال الذكريات
سلوى ياسين
الحادث الأليم الذي عرفته مراكش، عنيف وصفع كل من يحبون المدينة، بل كان مثل طعنة سكين غادرة، موجعة. كان اعتداء شنيعا على الضحايا الأبرياء الذين قرروا، ببساطة، أن يحتسوا قهوة داخل «أركانة» ذلك الصباح. لم أكن أريد أن أذكر مراكش مرفقة بالألم والاعتداء، لأن الحديث عن مدينة نابضة بالحياة لا يأتي رثاء. فلا مكان للرثاء ومراكش حية، مفعمة دائما بالحيوية. غير أن الذكريات التي عشتها داخل مراكش لأكثر من عشر سنوات كانت جميعها فاتنة، حقيقية، ومنحتني مباهج لا تحصى. وهي التي تدفعني اليوم إلى الكتابة عنها.
مراكش مدينة ترتاح على سفح فاتن وجبل عملاق، وهي كذلك رقعة ساخنة جدا، لا تتوقع منها كل هذه الخضرة الدائمة، ولا تصدق أنها في نفس اللحظة التي تدفئك فيها بشمسها تمنحك مشهدا ممتدا من الثلوج التي تغطي الجبال القريبة منها. هي مكان مفتوح على كل الاحتمالات.. بحرارتها وبرودتها المفرطتين، تلعب بالدفء والطراوة وتجمع النقيضين في نفس الرؤية والزمان، وتغري الزائرين والمقيمين فيها بالمكوث الدائم، فالرحيل عنها عصي ومستحيل، لأنهم يتعلمون الحياة الحقيقية داخلها، الحياة النابضة التي لا تقبل الحياد.
مراكش لا توجد في أمكنة من الإسمنت والمقاهي والأسواق وغيرها، بل هي عمر من المعاني الجميلة التي تسكن زائريها وقاطنيها ومحبيها، مغاربة وأجانب، والتي شكلت في قلوبهم شيئا يشبه امتزاج الحلم بالحقيقة بسبب مفاتنها التي تروض الجميع على العيش خارج بلدانهم دون الشعور بالغربة.
لست الوحيدة ممن انتصرت مراكش عليهم وجذبتهم للعيش داخل حمرتها، لأنها مدينة تعلم الزائر أن يتهجى الحرية الحقيقية. فلدي الكثير من الأصدقاء الأجانب الذين جاؤوا إلى مراكش في نزهة عادية، واكتشفوا أنها مدينة لا يكفي يوم أو أسبوع لتـُعاش، ورجعوا إليها فيما بعد لتلقنهم شكلا آخر من الحياة. وهم اليوم يعيشون فيها وكأنهم ولدوا داخلها، يشترون خضرواتهم من سوق « الوداية»، ويحفظون جيدا كل دروبها ومنعرجاتها.. يهيمون على وجوههم تحت شمسها طوال اليوم، وكأنهم يعاقبون أنفسهم على السنوات التي لم يكتشفوا خلالها مراكش، ولم تصبهم بعدواها. وأعرف كذلك من وقعوا في حبها من أول زيارة، ورجعوا بعد التقاعد، ليقضوا فيها ما تبقى من العمر. هم الآن لا يغادرونها إلى أي مدينة مغربية أخرى، «فالحوز» -في نظرهم- يختزل كل القرى، و«القصور» و«السمارين» و«باب فتوح» وغيرها من الأماكن والدروب القديمة تلخص المدائن العتيقة المغربية.. مراكش تلخص تنوع وجمال المغرب إلى حد كبير.
حادث مقهى «أركانه» كان قاسيا، لكنه لن يقتل مراكش التي تسكن قلوب الجميع، مدينة متنقلة في ذكريات وأحاديث محبيها ومريديها، بكل بهجتها، لأن اللحظات الجميلة التي لا تغادر ذاكرة الملايين الذين مروا منها، لا تقصف ولا تغتال.
مراكش، مهما حاولوا أن يقلدوا لكنتك الحمراء، ستظلين مدينة شهية، يلتهمك الجميع بعيونهم ويتمنون، عند كل زيارة، لو أنهم استطاعوا أن يحملوك معهم أو أن يأخذوا منك ولو قطعة صغيرة. ورغم أنه يقطنك الكثير من المترفين والأثرياء، ويحولونك في كل لحظة إلى مدينة عصرية جدا، متحفظة متعالية، فإنك مازلت تصرين على أن تظلي تلك الـ«مراكش» المهللة الشعبية المنفتحة، مازلت كما عهدتك دائما، مكانا مشاعا للجميع، مازلت وستظلين مراكش المدينة الغجرية التي تمنح كل مفاتنها دفعة واحدة.