مقدمة:**
*في الوقت الذي كانت فيه أوروبا ترتع في رِبْقَةِ الجهل، وتتقلب في ظُلُمات
الانحطاط والتأخر - كانت الحضارة الإسلاميَّة في أوج مَجدها وعظمتها في شَتَّى
ألوان الآداب والعلوم والفنون،
مؤلفة الكتب في كُلِّ علم، ومُسطِّرة التقدم في
كل مضمار، ومُشيدة لتلك القصور والنَّوادي والمراكز والجوامع في كل صقع، فكان
جامع القرمللى-1- بطرابلس، وجامعة القيروان، وجامع الزيتونة وتلمسان..
وعلى الرَّغم من البعد الجغرافي للمغرب الأقصى عن الشَّرق، فقد ظل حضاريًّا
قريبًا منه، بفضل المراكز العلميَّة التي كانت مقصد طلاب العلم من مختلف
الأصقاع، فاشتهرت بها الحواضر والمدن التي احتضنتها.
فإذا كانت مدينة "فاس" بالمغرب قد اشتهرت بجامع القرويين، فإنَّ مراكش عاصمة
الجنوب قد اشتهرت أيضًا بجامع ابن يوسف، وابن يوسف هذا هو أبو الحسن علي، الابن
الأكبر ليوسف بن تاشفين الصنهاجي اللمتوني، مُقعِّد قواعد دولة المرابطين،
ومُؤسس مدينة مراكش الحمراء، الذي عرف بالحزم والصَّرامة، حيثُ باشر أمورَ
المغرب الأقصى بقوة، بمجرد تسلُّمه مقاليد الحكم من أبيه، وكان في بداية حكمه
شديدَ الحرص على توحيد جهات المغرب.
*أولاً: في مفهوم الجامع وأهميته***
ولا بُدَّ من الإشارة في البداية إلى أنَّ مصطلح الجامع دالٌّ على المسجد
الكبير، الذي تقام فيه صلاة الجمعة، بَيْدَ أنَّه لم ترد هذه التسمية في القرآن
الكريم، وإنَّما وردت فيه عبارة المسجد، فيقال: "مسجد مكة"، و"مسجد المدينة"،
و"مسجد قباء"، وصفًا للمسجد، وجدير بالذِّكْر أنَّه ورد الجامع في الحديث؛ إذ
ترجم البخاري في الصَّحيح: "باب الاستسقاء في المسجد الجامع".
لقد وجد في المغرب المسجد والجامع، واسْتُعْمِلَ فيه الاسمان معًا دون أن يكون
بينهما حدٌّ فاصل، إلاَّ أن الجامع أخذ اهتمامًا أكبر في كتب التاريخ
والحوليَّات والحوالات الوقفيَّة؛ لأهميته، وسعته، وتعدد مرافقه، وزخارفه،
ووفرة ريع أوقافه في أغلب الأحيان.
وقد حقَّ ما قاله المستشرق (ليفي بروفنسال) عن أهميَّة الجامع في الحضارة
الإسلاميَّة؛ حيثُ قال: المركز الحقيقي الذي يُعَدُّ قلب المدينة الخفَّاق هو
المسجد الجامع، وما يلاصقه في أي مدينة إسلاميَّة لها شيء من الأهمية، ذو منزلة
تُغني على كل إطناب، ذلك بأنه ليس بيت العبادة فحسب، ولكنَّه المركز الذي تدور
حوله الحياة الدينية، والعقلية، والسياسية للمدينة.
إلى درجة قوله: المسجد الجامع - لا مَقَر الحكومة - هو الذي يَجب أن يتخذ
مِفْتاحًا لكل دراسة طبوغرافيَّة أو تاريخيَّة، في أي مدينة إسلاميَّة، والواقع
أنه من النَّادر أن يصف جغرافِيٌّ عربي مدينة دون أن يبدأ بجملة من الأخبار عن
المسجد الجامع فيها.
وعليه؛ فالمسجدُ الجامع هو القلب النابض الذي تنطلق منه الدقات الحضارية؛ فهو
مجال التعبد أولاً، ومكان التواصل والتآلف ثانيًا.
وعليه؛ فإنَّ الحديث عن مسجد ابن يوسف، كصرح شامخ، ومنارة للهدى عبر العصور،
ومركز للإشعاع المعرفي، وحقل لصقل المواهب والعبقريَّات، وحرم جامعي خالد
ومتميز - حديثٌ يستدعي الوقوف والتأمُّل لاستخلاص الدُّروس والعبر.
*ثانيًا: ابن يوسف والتأسيس والإصلاحات*
لقد جعلت بعضُ الوقائع التاريخيَّة الدولةَ المرابطيَّة في مواجهة من القوى
الإقليميَّة الكبرى، وكان اللِّقاء التاريخي بموقعة الزلاقة الفاصلة، فزادَ
الدَّولة بهذا النصر فخرًا آخرَ، ومكسبًا جديدًا، وقد أرادت الدولة المرابطية
أن تعزز هذا السبق العسكري بسبق علمي ومعرفي، فكان التفكير في تأسيس معلمة
تنبعث منها أنوارُ الهداية، وتَخرج منها المعارف الإسلاميَّة، ولم تَكُن ثَمرة
ذلك سوى جامع ابن يوسف.
وقد اختلفت المصادر التاريخيَّة في سنة تأسيسه، فذهب ابن القطان والزَّركشي
وصاحب الحلل إلى نهاية سنة 520 هـ.
بَيْدَ أنَّ ما يجعلنا نستبعد هذا التاريخ أنَّ صاحب "الحلل الموشية" نفسه
يعودُ فيؤكد: أن محمدَّ بن تومرت نَاظَرَ فقهاء المالكيَّة مناظرته الشهيرة،
بمسجد ابن يوسف سنة 515 هـ، وهذا يدُلُّ على أنه كان قائمَ الدَّعائم، قبل
السنة التي حددتها تلك المصادر، ويُؤكد ذلك محمد بن عثمان المراكشي بقوله:
"ولما انتهى الإمام المرابطي من تشييده سنة 514 هـ، زوَّده بحظ أوفر من عنايته،
وجَلَبَ أهل العلم والفَضْل لساحته، وجمع رجالَ الفكرِ والأدب بجانبه، فوَطِئته
أقدامُ الأندلس، وحلَّت به ركابه الأولى، وتدفق فيه علمها وآدابها.
كما استدل العلاَّمة الرحالي الفاروق على أنَّ سنة تأسيسه كانت سنة 514 هـ؛
استنادًا إلى ما ذكره ابن خَلْدون حول مناظرة المهدي، والفقهاء اللمتونيين،
التي تَمَّت في ظل الجامع عام 515 هـ.
وعليه؛ فالرَّاجح أنَّ النواة الأولى لهذه الجامعة - جامع ابن يوسف - تأسست عام
514هـ، في وسط المدينة، على مساحة فسيحة تبلغ نحو 10000 متر مربع؛ ليكونَ دار
علم ومعرفة، وتقلصت هذه المساحة مع مرور الزَّمن، ووصف الحسن الوزان المعروف
بليون الإفريقي في كتابه "وصف إفريقيا" عن مشاهدة جامع ابن يوسف قائلاً :
"إنَّه في غاية الحسن".
وقد عرف الجامع عدَّة إصلاحات وتجديدات عبر القرون؛ هَدَفَ بعضٌ منها إلى طمس
معالم مؤسسه الأول، وفي هذا الصَّدد يذكر الحسن الوزان تبعًا لمؤرخين سابقين
أن: "عبدالمؤمن بن علي مؤسس الدولة الموحدية هَدَمَ هذا الجامع، وأعاد بناءه؛
ليمحوَ اسمَ مُؤسسه علي بن يوسف، ويَجعل اسمه هو مكانه"، بَيْدَ أن عمله ذهب
سُدًى، والدليل على ذلك أنَّه لا يجري على ألسنة النَّاس إلى الآن إلا الاسم
القديم: "جامع ابن يوسف".
وقد تقلَّصت مساحته أثناء عمليَّة التَّرميم، وكان آخر من جدَّده السلطانُ
المولى سليمان عام 1236 - 1820 بناه بناء ضخمًا، وأزال منارته الأصليَّة التي
كانت له قديمًا، ولا زال آثارها ظاهرًا، وشيد منارة أخرى بديعة الحسن رائعة
الصنعة - حَسَبَ تَعبير صاحب "الاستقصاء" - كما أنَّ الملك محمد الخامس أمر
بتنظيم الدِّراسة فيه على غرار مسجد القرويين، وذلك في 1938م، وهو إلى اليوم
يحتفظ بنفس الشكل الذي وصفه المستشرق الفرنسي كاستون دوفيردان Gaston Deverdun.
*ثالثًا: ابن يوسف قِبْلَة أهل العلم وحاضن المناظرة الكبرى*
لقد جعل جامع ابن يوسف من مراكش مَحجًّا للعلماء وطلاب العلم، بشكل جعل العاصمة
المرابطيَّة منبرًا للدَّعوة إلى الله، وقلعة من قلاع الشريعة الإسلاميَّة،
ونشرًا لمبادئها وأصولها، ومنهلاً للمعرفة، ومنتدًى للثقافة الإسلاميَّة،
ومركزًا لإثبات دعائم الدولة الفَتِيَّة.
فقد شهد الجامع إجراءَ المناظرة التاريخيَّة الكبرى بين ابن تومرت المُسَمَّى
بالمهدي وفقهاء المرابطين، التي أسفرت عن تطورات سياسية ومذهبية أشغلت الغربَ
الإسلامي كُلَّه، طوال ثلاثة قرون، وأدَّت إلى قيام الدولة المعروفة في التاريخ
بدولة الموحدين، والتَّخلي عن المذهب المالكي وإحراق كتبه، والاجتهاد في أمور
الدِّين، وازدهار العلوم الفلسفيَّة والحكمية وسائر المعقولات.
ومن بين مَن وَفَد عليه وزاول مُهمة التدريس فيه منذ عهد التأسيس: علماء كبار
من المغرب والأندلس؛ إذ من المعلوم أنَّ الإمبراطوريَّة المرابطية كانت تَمتد
من حوض السنغال جنوبًا إلى شمال إسبانيا، وتشمل شرقًا معظم المغرب الأوسط، ومن
أشهر الشخصيات العلمية التي عرفها جامع ابن يوسف في مراحله الأولى: أبو الوليد
ابن رُشد الجد رأس فقهاء الأندلس، وحفيده أبو الوليد ابن رشد إمام الفلاسفة
والحكماء، كما كانت جنبات الجامع تعجُّ بفطاحل العلماء من أمثال: ابن زهر،
ومالك بن وهيب، وابن عطيَّة، وابن القصيرة، وابن أبي الخصال وغيرهم.
كما أنَّ الجامع خَرَّجَ عددًا من العلماء الكبار، هم مصدر فخر واعتزاز للذاكرة
المغربية، من أمثال: أبي علي المراكشي، وعبدالواحد المراكشي، والقاضي عياض،
وابن البناء العالم الرِّياضي، وابن طفيل الطبيب الأندلسي، والمنصور السعدي،
والنبيل زيدان، وابن القاضي، واليفراني، وجماعة لا يستهان بهم من رجال العلم
والأدب.
وبذلك أصبحت مدينة مراكش بفضل هذا الجامع الكبير قِبْلَةً لطلاب العلم
والعلماء، شأنها في ذلك شأن باقي كُبْرَيات العواصم الإسلاميَّة في ذات الوقت،
كما أصبحَ هذا الجامع مهبطًا لوحي الأفكار، وملتقى أهل المعرفة والأخبار، تنبعث
منه أنوار الهداية والعرفان، ومنطلقًا إلى مختلف جهات المغرب وإلى الأقطار
المجاورة؛ ليستَمِرَّ إشعاعُ المركز العلمي الأوَّل بمراكش مدة طويلة.
بل استَمَرَّ إلى العصر الحديث حيثُ ساهم جامع ابن يوسف في نشر وإذكاء الرُّوح
الوطنية إبَّان فترة الحماية والاستعمار، بل إنَّه كان سبَّاقًا إلى إيقاظ الحس
الوطني في نفس كل مواطن مغربي، في مختلف الشرائح الاجتماعيَّة؛ أساتذة وطلبة،
وتجار، وحرفيين، وتكفي الإشارة إلى أنَّ علماء الجامع كانوا وراء تفجير شرارة
الاحتجاج على ظهير 30 مايو 1930، وكان على رأس مُفَجِّريها: السيد التهامي
المعروفي، والعلاَّمة المختار السوسي، إضافة إلى ما أقدم عليه طلبة مدرسة بن
يوسف سنة 1937 بمناسبة زيارة المقيمِ العامِ لمدينتهم - من فضحٍ لأوضاع
البُؤْسِ والحرمان والمعاناة، التي حاولَ حُكَّام مراكش إخفاءها عن عين
المُقيم، وكان من نتائجها انتفاضة طلابية كان من نتائجها تعرُّض عدد منهم
للاعتقال والنَّفي.
وكان ممن وقع على وثيقة المطالبة بالاستقلال، في 11 يناير 1944 من علماءَ
وطلبةِ ابن يوسف: السيد مبارك الغراس، السيد الحسين الوزاني، السيد عبدالله
إبراهيم، والطالب الغراس، والطالب عبدالنبي بن العادل.
*
*
لابُدَّ من الإشارة إلى أنَّه لم تكد تخلو مدينة مغربيَّة من مدارسه العلميَّة
البديعة، التي حَظِيَت بالعناية والاهتمام، ومن بين هذه المدارس مدرسة ابن
يوسف، التي أخذت هذا الاسم لوقوعها بالقُرب من جامع ابن يوسف، وارتبطت به
ارتباطًا وثيقًا، لدرجةٍ لا يُمكن الحديث عن المدرسة إلاَّ مقرونة بجامع ابن
يوسف، الذي تعطَّلت مهامه زهاء الثَّلاثين سنة، من فترة الحُكم الموحدي، وهناك
إشاراتٌ تاريخيَّة محدودة إلى تَعَرُّض جُملة من المساجد المُرابطيَّة
للتَّخريب من قِبَل الموحدين، وبناء أخرى.
ولَمَّا استعادت مراكش مركزها كعاصمة للدولة مع الشرفاء السَّعديين، جدَّدَ
السلطان عبدالله الغالب مدرسة ابن يوسف، كما روى المؤرخ الإسباني مارمول
كرباخال، وقد بالغ في زخرفتها وتأنيقها، بالشكل الرائع الذي توجد عليه الآن؛
تقربًا إلى الله - تعالى - وطلبًا للشفاء من مرض البطنة، وكتب اسمه في جدرانها؛
ليطمسَ أَثَرَ مؤسسها المريني الأَوَّل - مثلما فعل عبدالمؤمن من قبل - ولكنَّ
الذَّاكرة الشعبية أَبَتْ إلاَّ أن تظلَّ وفيَّة للمُؤسِّس الحقيقي لأضخم مؤسسة
تعليميَّة بعاصمة الجنوب بمراكش، ولا تُردِّد ألسنتُها حتَّى اليوم سوى جامع
ابن يوسف ومدرسة ابن يوسف.
وتَحتلُّ المدرسة مساحةً تُقَدَّر بحوالي 1680 مِتْرًا، وهي ذات شكل مربع،
وكانت على امتداد أربعة قرون قِبْلَة العلماء وطلاب العلم، قبل أن تتحول في
السَّنوات الأخيرة إلى مَزارٍ سياحي يَحرص زُوَّار مراكش على الاستمتاع بتحفه
الأثريَّة الرَّائعة، وهي - حقيقةً - علامة شاهدة على الازدهار الحضاري
الإسلامي بالمغرب.
وللإشارة؛ لم تكن الدُّروس تلقى بالمدرسة نفسها، ولكن بداخل مسجد بن يوسف
المجاور، وهذا سِرٌّ من أسرار ارتباط المدرسة بالجامع؛ حيثُ كانت عبارة عن "حي
جامعي"، بالمفهوم المتعارف عليه اليوم، لسكن الطلبة، وتضم حوالي 132 غرفة؛ حيثُ
كان يعيش الطلبة ويراجعون دروسهم، في حين كان الجامع يُستعمل لأداء الواجب
الديني والدروس.*
*
*معالم فنية آيات في السحر والجمال*
لم يكن التفرد في استقطاب العلماء وكبار الأساتذة من السِّمات المميزة لهذه
المعلمة الحضاريَّة فقط؛ بل كان المعمار وجماليَّته أيضًا من سماتِها المميزة،
فقبل الولوج إلى داخل بِنايَة المدرسة، تسترعي انتباه الزائر قُبَّة مزخرفة
بالجبس و النقوش، أما باب المعلمة، فمغطى بالبرونز المنقوش، ويتمُّ الولوج إلى
المدرسة عَبْرَ ممر مغطى تتخلله فتحات هندسية تضيء المكان، ثم يجد المرء نفسه
بعد ذلك في دهليز يؤدِّي إلى مختلف أنحاء البناية.
أما في وسط المدرسة فتوجد قاعة الصلاة، ومكونة من ثلاث بلاطات عرضية، يفصلها
صَفَّان من الأعمدة الرُّخامية، وتتوفر على خزانات خشبية كانت تستعمل مكتبات
خاصة بنُزلاء المدرسة.
أما المحراب، فهو الآية البديعة، بموادِّها المتنوعة؛ مثل: الرخام، والخشب،
والجبس بألوانه المختلفة، وهو مزود بشرفات خماسيَّة الأضلاع مُقوسة، ومدعومة
بأربعة أعمدة صغيرة ومُزَيَّنة بالرخام، وتُغطيه قبَّة صغيرة مزينة بالجبس،
ويُشكِّلُ المحراب - حقيقةً - أحدَ عناصر غنى هذه المعلمة الخالدة، وبجانبه
عمودان منقوشان بالرُّخام الإيطالي؛ الذي استعمل بكثرة في المدرسة - أرضيَّة
المدرسة وغرف الطلبة وصحونها - إلى جانب الجبس المنقوش يدويًّا؛ إذ لا تكاد
جدران المدرسة تَخلو من لوحات فنيَّة، يكون الجبسُ بألوانه الزَّاهية مادتها
الأساسية، وتزداد المعلمة رونقًا وجمالاً باستعمال الزليج بألوانه المتنوعة
وأشكاله الهندسيَّة وتقنياته المختلفة؛ إذ يُغطي أسفلَ الجدران وكذا الأعمدة،
وأمَّا الطَّابق العلوي، فيُفضَى إليه عَبْر درج تقليد البناية والهندسة، وهو
يُفضي إلى غرف الطلبة.
أما قباب هذه المعلمة، فمصنوعة من خشب الأرز من جبال الأطلس بالمغرب، وتبقى
قُبَّته الكبرى من المعالم التاريخيَّة، التي تكاد تكون الوحيدة في المغرب الباقية
كاملة من العمارة المرابطيَّة؛ وهي تتكون من جزأَيْن: القبة التي تُغطي حوضًا
مستطيلاً كان يُستعمَلُ للطهارة، ومجمعًا مائيًّا يضمُّ بقايا مراحيض، ومطفية
لخزن الماء وتوزيعه، وقنوًا من الطين لتصريف هذه المياه، وتتميَّز هندسة القبة
في كونها تُقدِّم مستطيلاً يتحول في الأعلى إلى مُربع داخلي، ثُم على شكل
مُثَمَّن الأضلاع ترسو فوقه القبة، ومن الدَّاخل تكمُن روعة هذه القبة في مرور
ثمانية أضلاع كبيرة على إفريز مَنقوش بالكتابة، وعلى توريق عربِي، تبرزها أربعة
مَجالات فارغة في الزوايا.
إنَّ تنوع مواد البناء وتعدد الزخارف الهندسية يجعل هذه المعلمة تُحفة
فَنِّيَّة من المعمار المغربي الإسلامي الأصيل، وسجلاً حيًّا يؤرخ لتتمازج
اللَّمسات الفنية الأندلسيَّة بالمغربية، فابن يوسف مُنحدر من أم أندلسية،
ومولود بسبتة؛ لذا حَضَرَ التخطيط الأندلسي في كثير من مبانيه المعمارية.
أما خزانة ابن يوسف الشهيرة حتَّى أيَّامنا هذه، فتعد ثاني الخزائن المغربية
العتيقة، المليئة بالمخطوطات النَّفيسة، ويرجع تاريخُ تأسيسها إلى أوائل القرن
الثاني عشر، حين شيد علي بن يوسف بن تاشفين، ثاني ملوك الدَّولة المرابطية،
ومقعد قواعدها - الجامع الكبير بمراكش، وجعلت الخزانة العلميَّة بأحد مقاصيره،
وبعد المرحلة الصَّعبة التي قطعها جامع ابن يوسف وخزانته في عهد الموحدين،
الذين عملوا على طَمْس جميع آثار المرابطين - استعادت خزانة ابن يوسف مع الجامع
حياة نشيطة، وازدهرت بالخصوص مع الشرفاء السَّعديين الذين اتخذوا من مراكش
عاصمة لهم، وتنافسوا في تزويد الخزائن العلميَّة بحاضرتهم بمختلف المؤلفات
الثَّمينة القديمة والحديثة.
وأخيرًا: اعتنى الحسن الأول ببناء مركز جديد لخزانة ابن يوسف، ووضع ابنه
عبدالحفيظ عندما كان خليفة لأخيه السلطان عبدالعزيز بمراكش فهرسًا لهذه الخزانة
الجديدة سنة 1953، وجهزت بالوسائل اللاَّزمة إلى أن نقلت سنة 1960 إلى قصر "
الأكلاوي"، حيثُ ما تزال فيه حتى اليوم، ومخطوطاتها الباقية تناهز ألفي مخطوط،
بعضها قديم لا يوجد في غيرها من الخزائن المغربية والأجنبية.
وهكذا تبقى مؤسسات ابن يوسف منذ تأسيسها - وعلى رأسها الجامع الكبير - لها
الدَّور الكبير في الإشعاع العلمي والثقافي لمراكش، الذي تأرجح مجاله بالوضعية
السياسية للمغرب، فعندما كانت الحاضرة العاصمة المركزية امتَدَّ إلى مَجالات
قاريةٍ شاسعة، ثم تَحول الإشعاع إلى مُستوى إقليمي باضمحلال الإمبراطوريَّة
المغربيَّة، وفقدان مراكش مكانتها كعاصمة سياسية للبلاد، بَيْدَ أن جامع يوسف
ظلَّ على الدوام أحد المعالم العلميَّة والحضارية الشاهدة على عبقرية مؤسسيها
ومُشيديها، وظَلَّت على مَرِّ العصور تدافع عن تراثِ الإسلام واللُّغة العربية
في أقصى نقطة من غرب العالم الإسلامي، بتمسكها بالتعليم الأصيل تلقينًا
وتكوينًا، كما قدمت لنا نماذج من كفاح أساتذتها وطُلاَّبها في سبيل إحقاق الحق،
ضد الضلال والفساد، والعمل على نشر الخير والفضيلة، ونبذ ما يَمس القيم
الإسلامية والمبادئ الإنسانية، والدعوة إلى التربية الإسلامية بالقدوة والعمل
قبل القول.
*خاتمة*:
وفي كلمة أخيرة، يُمكن القول: إنَّ هذه المؤسسة لعبت دورًا رياديًّا في مجال
العلم والمعرفة، وكانت بذلك إحدى أشهر جوامع العالم الإسلامي صحبة للمسجد
النَّبوي، والحرم المكي، ومسجد قرطبة، وجامع الزيتونة.
وعليه؛ فيَحِقُّ لهذه المؤسسة أن تفخر بإنجابها لمختلف الأعلام العلمية،
وبدورها البطولي في مقاومة الاستعمار، وتحقيق الحرية والاستقلال.
*في الوقت الذي كانت فيه أوروبا ترتع في رِبْقَةِ الجهل، وتتقلب في ظُلُمات
الانحطاط والتأخر - كانت الحضارة الإسلاميَّة في أوج مَجدها وعظمتها في شَتَّى
ألوان الآداب والعلوم والفنون،
مؤلفة الكتب في كُلِّ علم، ومُسطِّرة التقدم في
كل مضمار، ومُشيدة لتلك القصور والنَّوادي والمراكز والجوامع في كل صقع، فكان
جامع القرمللى-1- بطرابلس، وجامعة القيروان، وجامع الزيتونة وتلمسان..
وعلى الرَّغم من البعد الجغرافي للمغرب الأقصى عن الشَّرق، فقد ظل حضاريًّا
قريبًا منه، بفضل المراكز العلميَّة التي كانت مقصد طلاب العلم من مختلف
الأصقاع، فاشتهرت بها الحواضر والمدن التي احتضنتها.
فإذا كانت مدينة "فاس" بالمغرب قد اشتهرت بجامع القرويين، فإنَّ مراكش عاصمة
الجنوب قد اشتهرت أيضًا بجامع ابن يوسف، وابن يوسف هذا هو أبو الحسن علي، الابن
الأكبر ليوسف بن تاشفين الصنهاجي اللمتوني، مُقعِّد قواعد دولة المرابطين،
ومُؤسس مدينة مراكش الحمراء، الذي عرف بالحزم والصَّرامة، حيثُ باشر أمورَ
المغرب الأقصى بقوة، بمجرد تسلُّمه مقاليد الحكم من أبيه، وكان في بداية حكمه
شديدَ الحرص على توحيد جهات المغرب.
*أولاً: في مفهوم الجامع وأهميته***
ولا بُدَّ من الإشارة في البداية إلى أنَّ مصطلح الجامع دالٌّ على المسجد
الكبير، الذي تقام فيه صلاة الجمعة، بَيْدَ أنَّه لم ترد هذه التسمية في القرآن
الكريم، وإنَّما وردت فيه عبارة المسجد، فيقال: "مسجد مكة"، و"مسجد المدينة"،
و"مسجد قباء"، وصفًا للمسجد، وجدير بالذِّكْر أنَّه ورد الجامع في الحديث؛ إذ
ترجم البخاري في الصَّحيح: "باب الاستسقاء في المسجد الجامع".
لقد وجد في المغرب المسجد والجامع، واسْتُعْمِلَ فيه الاسمان معًا دون أن يكون
بينهما حدٌّ فاصل، إلاَّ أن الجامع أخذ اهتمامًا أكبر في كتب التاريخ
والحوليَّات والحوالات الوقفيَّة؛ لأهميته، وسعته، وتعدد مرافقه، وزخارفه،
ووفرة ريع أوقافه في أغلب الأحيان.
وقد حقَّ ما قاله المستشرق (ليفي بروفنسال) عن أهميَّة الجامع في الحضارة
الإسلاميَّة؛ حيثُ قال: المركز الحقيقي الذي يُعَدُّ قلب المدينة الخفَّاق هو
المسجد الجامع، وما يلاصقه في أي مدينة إسلاميَّة لها شيء من الأهمية، ذو منزلة
تُغني على كل إطناب، ذلك بأنه ليس بيت العبادة فحسب، ولكنَّه المركز الذي تدور
حوله الحياة الدينية، والعقلية، والسياسية للمدينة.
إلى درجة قوله: المسجد الجامع - لا مَقَر الحكومة - هو الذي يَجب أن يتخذ
مِفْتاحًا لكل دراسة طبوغرافيَّة أو تاريخيَّة، في أي مدينة إسلاميَّة، والواقع
أنه من النَّادر أن يصف جغرافِيٌّ عربي مدينة دون أن يبدأ بجملة من الأخبار عن
المسجد الجامع فيها.
وعليه؛ فالمسجدُ الجامع هو القلب النابض الذي تنطلق منه الدقات الحضارية؛ فهو
مجال التعبد أولاً، ومكان التواصل والتآلف ثانيًا.
وعليه؛ فإنَّ الحديث عن مسجد ابن يوسف، كصرح شامخ، ومنارة للهدى عبر العصور،
ومركز للإشعاع المعرفي، وحقل لصقل المواهب والعبقريَّات، وحرم جامعي خالد
ومتميز - حديثٌ يستدعي الوقوف والتأمُّل لاستخلاص الدُّروس والعبر.
*ثانيًا: ابن يوسف والتأسيس والإصلاحات*
لقد جعلت بعضُ الوقائع التاريخيَّة الدولةَ المرابطيَّة في مواجهة من القوى
الإقليميَّة الكبرى، وكان اللِّقاء التاريخي بموقعة الزلاقة الفاصلة، فزادَ
الدَّولة بهذا النصر فخرًا آخرَ، ومكسبًا جديدًا، وقد أرادت الدولة المرابطية
أن تعزز هذا السبق العسكري بسبق علمي ومعرفي، فكان التفكير في تأسيس معلمة
تنبعث منها أنوارُ الهداية، وتَخرج منها المعارف الإسلاميَّة، ولم تَكُن ثَمرة
ذلك سوى جامع ابن يوسف.
وقد اختلفت المصادر التاريخيَّة في سنة تأسيسه، فذهب ابن القطان والزَّركشي
وصاحب الحلل إلى نهاية سنة 520 هـ.
بَيْدَ أنَّ ما يجعلنا نستبعد هذا التاريخ أنَّ صاحب "الحلل الموشية" نفسه
يعودُ فيؤكد: أن محمدَّ بن تومرت نَاظَرَ فقهاء المالكيَّة مناظرته الشهيرة،
بمسجد ابن يوسف سنة 515 هـ، وهذا يدُلُّ على أنه كان قائمَ الدَّعائم، قبل
السنة التي حددتها تلك المصادر، ويُؤكد ذلك محمد بن عثمان المراكشي بقوله:
"ولما انتهى الإمام المرابطي من تشييده سنة 514 هـ، زوَّده بحظ أوفر من عنايته،
وجَلَبَ أهل العلم والفَضْل لساحته، وجمع رجالَ الفكرِ والأدب بجانبه، فوَطِئته
أقدامُ الأندلس، وحلَّت به ركابه الأولى، وتدفق فيه علمها وآدابها.
كما استدل العلاَّمة الرحالي الفاروق على أنَّ سنة تأسيسه كانت سنة 514 هـ؛
استنادًا إلى ما ذكره ابن خَلْدون حول مناظرة المهدي، والفقهاء اللمتونيين،
التي تَمَّت في ظل الجامع عام 515 هـ.
وعليه؛ فالرَّاجح أنَّ النواة الأولى لهذه الجامعة - جامع ابن يوسف - تأسست عام
514هـ، في وسط المدينة، على مساحة فسيحة تبلغ نحو 10000 متر مربع؛ ليكونَ دار
علم ومعرفة، وتقلصت هذه المساحة مع مرور الزَّمن، ووصف الحسن الوزان المعروف
بليون الإفريقي في كتابه "وصف إفريقيا" عن مشاهدة جامع ابن يوسف قائلاً :
"إنَّه في غاية الحسن".
وقد عرف الجامع عدَّة إصلاحات وتجديدات عبر القرون؛ هَدَفَ بعضٌ منها إلى طمس
معالم مؤسسه الأول، وفي هذا الصَّدد يذكر الحسن الوزان تبعًا لمؤرخين سابقين
أن: "عبدالمؤمن بن علي مؤسس الدولة الموحدية هَدَمَ هذا الجامع، وأعاد بناءه؛
ليمحوَ اسمَ مُؤسسه علي بن يوسف، ويَجعل اسمه هو مكانه"، بَيْدَ أن عمله ذهب
سُدًى، والدليل على ذلك أنَّه لا يجري على ألسنة النَّاس إلى الآن إلا الاسم
القديم: "جامع ابن يوسف".
وقد تقلَّصت مساحته أثناء عمليَّة التَّرميم، وكان آخر من جدَّده السلطانُ
المولى سليمان عام 1236 - 1820 بناه بناء ضخمًا، وأزال منارته الأصليَّة التي
كانت له قديمًا، ولا زال آثارها ظاهرًا، وشيد منارة أخرى بديعة الحسن رائعة
الصنعة - حَسَبَ تَعبير صاحب "الاستقصاء" - كما أنَّ الملك محمد الخامس أمر
بتنظيم الدِّراسة فيه على غرار مسجد القرويين، وذلك في 1938م، وهو إلى اليوم
يحتفظ بنفس الشكل الذي وصفه المستشرق الفرنسي كاستون دوفيردان Gaston Deverdun.
*ثالثًا: ابن يوسف قِبْلَة أهل العلم وحاضن المناظرة الكبرى*
لقد جعل جامع ابن يوسف من مراكش مَحجًّا للعلماء وطلاب العلم، بشكل جعل العاصمة
المرابطيَّة منبرًا للدَّعوة إلى الله، وقلعة من قلاع الشريعة الإسلاميَّة،
ونشرًا لمبادئها وأصولها، ومنهلاً للمعرفة، ومنتدًى للثقافة الإسلاميَّة،
ومركزًا لإثبات دعائم الدولة الفَتِيَّة.
فقد شهد الجامع إجراءَ المناظرة التاريخيَّة الكبرى بين ابن تومرت المُسَمَّى
بالمهدي وفقهاء المرابطين، التي أسفرت عن تطورات سياسية ومذهبية أشغلت الغربَ
الإسلامي كُلَّه، طوال ثلاثة قرون، وأدَّت إلى قيام الدولة المعروفة في التاريخ
بدولة الموحدين، والتَّخلي عن المذهب المالكي وإحراق كتبه، والاجتهاد في أمور
الدِّين، وازدهار العلوم الفلسفيَّة والحكمية وسائر المعقولات.
ومن بين مَن وَفَد عليه وزاول مُهمة التدريس فيه منذ عهد التأسيس: علماء كبار
من المغرب والأندلس؛ إذ من المعلوم أنَّ الإمبراطوريَّة المرابطية كانت تَمتد
من حوض السنغال جنوبًا إلى شمال إسبانيا، وتشمل شرقًا معظم المغرب الأوسط، ومن
أشهر الشخصيات العلمية التي عرفها جامع ابن يوسف في مراحله الأولى: أبو الوليد
ابن رُشد الجد رأس فقهاء الأندلس، وحفيده أبو الوليد ابن رشد إمام الفلاسفة
والحكماء، كما كانت جنبات الجامع تعجُّ بفطاحل العلماء من أمثال: ابن زهر،
ومالك بن وهيب، وابن عطيَّة، وابن القصيرة، وابن أبي الخصال وغيرهم.
كما أنَّ الجامع خَرَّجَ عددًا من العلماء الكبار، هم مصدر فخر واعتزاز للذاكرة
المغربية، من أمثال: أبي علي المراكشي، وعبدالواحد المراكشي، والقاضي عياض،
وابن البناء العالم الرِّياضي، وابن طفيل الطبيب الأندلسي، والمنصور السعدي،
والنبيل زيدان، وابن القاضي، واليفراني، وجماعة لا يستهان بهم من رجال العلم
والأدب.
وبذلك أصبحت مدينة مراكش بفضل هذا الجامع الكبير قِبْلَةً لطلاب العلم
والعلماء، شأنها في ذلك شأن باقي كُبْرَيات العواصم الإسلاميَّة في ذات الوقت،
كما أصبحَ هذا الجامع مهبطًا لوحي الأفكار، وملتقى أهل المعرفة والأخبار، تنبعث
منه أنوار الهداية والعرفان، ومنطلقًا إلى مختلف جهات المغرب وإلى الأقطار
المجاورة؛ ليستَمِرَّ إشعاعُ المركز العلمي الأوَّل بمراكش مدة طويلة.
بل استَمَرَّ إلى العصر الحديث حيثُ ساهم جامع ابن يوسف في نشر وإذكاء الرُّوح
الوطنية إبَّان فترة الحماية والاستعمار، بل إنَّه كان سبَّاقًا إلى إيقاظ الحس
الوطني في نفس كل مواطن مغربي، في مختلف الشرائح الاجتماعيَّة؛ أساتذة وطلبة،
وتجار، وحرفيين، وتكفي الإشارة إلى أنَّ علماء الجامع كانوا وراء تفجير شرارة
الاحتجاج على ظهير 30 مايو 1930، وكان على رأس مُفَجِّريها: السيد التهامي
المعروفي، والعلاَّمة المختار السوسي، إضافة إلى ما أقدم عليه طلبة مدرسة بن
يوسف سنة 1937 بمناسبة زيارة المقيمِ العامِ لمدينتهم - من فضحٍ لأوضاع
البُؤْسِ والحرمان والمعاناة، التي حاولَ حُكَّام مراكش إخفاءها عن عين
المُقيم، وكان من نتائجها انتفاضة طلابية كان من نتائجها تعرُّض عدد منهم
للاعتقال والنَّفي.
وكان ممن وقع على وثيقة المطالبة بالاستقلال، في 11 يناير 1944 من علماءَ
وطلبةِ ابن يوسف: السيد مبارك الغراس، السيد الحسين الوزاني، السيد عبدالله
إبراهيم، والطالب الغراس، والطالب عبدالنبي بن العادل.
*
*
لابُدَّ من الإشارة إلى أنَّه لم تكد تخلو مدينة مغربيَّة من مدارسه العلميَّة
البديعة، التي حَظِيَت بالعناية والاهتمام، ومن بين هذه المدارس مدرسة ابن
يوسف، التي أخذت هذا الاسم لوقوعها بالقُرب من جامع ابن يوسف، وارتبطت به
ارتباطًا وثيقًا، لدرجةٍ لا يُمكن الحديث عن المدرسة إلاَّ مقرونة بجامع ابن
يوسف، الذي تعطَّلت مهامه زهاء الثَّلاثين سنة، من فترة الحُكم الموحدي، وهناك
إشاراتٌ تاريخيَّة محدودة إلى تَعَرُّض جُملة من المساجد المُرابطيَّة
للتَّخريب من قِبَل الموحدين، وبناء أخرى.
ولَمَّا استعادت مراكش مركزها كعاصمة للدولة مع الشرفاء السَّعديين، جدَّدَ
السلطان عبدالله الغالب مدرسة ابن يوسف، كما روى المؤرخ الإسباني مارمول
كرباخال، وقد بالغ في زخرفتها وتأنيقها، بالشكل الرائع الذي توجد عليه الآن؛
تقربًا إلى الله - تعالى - وطلبًا للشفاء من مرض البطنة، وكتب اسمه في جدرانها؛
ليطمسَ أَثَرَ مؤسسها المريني الأَوَّل - مثلما فعل عبدالمؤمن من قبل - ولكنَّ
الذَّاكرة الشعبية أَبَتْ إلاَّ أن تظلَّ وفيَّة للمُؤسِّس الحقيقي لأضخم مؤسسة
تعليميَّة بعاصمة الجنوب بمراكش، ولا تُردِّد ألسنتُها حتَّى اليوم سوى جامع
ابن يوسف ومدرسة ابن يوسف.
وتَحتلُّ المدرسة مساحةً تُقَدَّر بحوالي 1680 مِتْرًا، وهي ذات شكل مربع،
وكانت على امتداد أربعة قرون قِبْلَة العلماء وطلاب العلم، قبل أن تتحول في
السَّنوات الأخيرة إلى مَزارٍ سياحي يَحرص زُوَّار مراكش على الاستمتاع بتحفه
الأثريَّة الرَّائعة، وهي - حقيقةً - علامة شاهدة على الازدهار الحضاري
الإسلامي بالمغرب.
وللإشارة؛ لم تكن الدُّروس تلقى بالمدرسة نفسها، ولكن بداخل مسجد بن يوسف
المجاور، وهذا سِرٌّ من أسرار ارتباط المدرسة بالجامع؛ حيثُ كانت عبارة عن "حي
جامعي"، بالمفهوم المتعارف عليه اليوم، لسكن الطلبة، وتضم حوالي 132 غرفة؛ حيثُ
كان يعيش الطلبة ويراجعون دروسهم، في حين كان الجامع يُستعمل لأداء الواجب
الديني والدروس.*
*
*معالم فنية آيات في السحر والجمال*
لم يكن التفرد في استقطاب العلماء وكبار الأساتذة من السِّمات المميزة لهذه
المعلمة الحضاريَّة فقط؛ بل كان المعمار وجماليَّته أيضًا من سماتِها المميزة،
فقبل الولوج إلى داخل بِنايَة المدرسة، تسترعي انتباه الزائر قُبَّة مزخرفة
بالجبس و النقوش، أما باب المعلمة، فمغطى بالبرونز المنقوش، ويتمُّ الولوج إلى
المدرسة عَبْرَ ممر مغطى تتخلله فتحات هندسية تضيء المكان، ثم يجد المرء نفسه
بعد ذلك في دهليز يؤدِّي إلى مختلف أنحاء البناية.
أما في وسط المدرسة فتوجد قاعة الصلاة، ومكونة من ثلاث بلاطات عرضية، يفصلها
صَفَّان من الأعمدة الرُّخامية، وتتوفر على خزانات خشبية كانت تستعمل مكتبات
خاصة بنُزلاء المدرسة.
أما المحراب، فهو الآية البديعة، بموادِّها المتنوعة؛ مثل: الرخام، والخشب،
والجبس بألوانه المختلفة، وهو مزود بشرفات خماسيَّة الأضلاع مُقوسة، ومدعومة
بأربعة أعمدة صغيرة ومُزَيَّنة بالرخام، وتُغطيه قبَّة صغيرة مزينة بالجبس،
ويُشكِّلُ المحراب - حقيقةً - أحدَ عناصر غنى هذه المعلمة الخالدة، وبجانبه
عمودان منقوشان بالرُّخام الإيطالي؛ الذي استعمل بكثرة في المدرسة - أرضيَّة
المدرسة وغرف الطلبة وصحونها - إلى جانب الجبس المنقوش يدويًّا؛ إذ لا تكاد
جدران المدرسة تَخلو من لوحات فنيَّة، يكون الجبسُ بألوانه الزَّاهية مادتها
الأساسية، وتزداد المعلمة رونقًا وجمالاً باستعمال الزليج بألوانه المتنوعة
وأشكاله الهندسيَّة وتقنياته المختلفة؛ إذ يُغطي أسفلَ الجدران وكذا الأعمدة،
وأمَّا الطَّابق العلوي، فيُفضَى إليه عَبْر درج تقليد البناية والهندسة، وهو
يُفضي إلى غرف الطلبة.
أما قباب هذه المعلمة، فمصنوعة من خشب الأرز من جبال الأطلس بالمغرب، وتبقى
قُبَّته الكبرى من المعالم التاريخيَّة، التي تكاد تكون الوحيدة في المغرب الباقية
كاملة من العمارة المرابطيَّة؛ وهي تتكون من جزأَيْن: القبة التي تُغطي حوضًا
مستطيلاً كان يُستعمَلُ للطهارة، ومجمعًا مائيًّا يضمُّ بقايا مراحيض، ومطفية
لخزن الماء وتوزيعه، وقنوًا من الطين لتصريف هذه المياه، وتتميَّز هندسة القبة
في كونها تُقدِّم مستطيلاً يتحول في الأعلى إلى مُربع داخلي، ثُم على شكل
مُثَمَّن الأضلاع ترسو فوقه القبة، ومن الدَّاخل تكمُن روعة هذه القبة في مرور
ثمانية أضلاع كبيرة على إفريز مَنقوش بالكتابة، وعلى توريق عربِي، تبرزها أربعة
مَجالات فارغة في الزوايا.
إنَّ تنوع مواد البناء وتعدد الزخارف الهندسية يجعل هذه المعلمة تُحفة
فَنِّيَّة من المعمار المغربي الإسلامي الأصيل، وسجلاً حيًّا يؤرخ لتتمازج
اللَّمسات الفنية الأندلسيَّة بالمغربية، فابن يوسف مُنحدر من أم أندلسية،
ومولود بسبتة؛ لذا حَضَرَ التخطيط الأندلسي في كثير من مبانيه المعمارية.
أما خزانة ابن يوسف الشهيرة حتَّى أيَّامنا هذه، فتعد ثاني الخزائن المغربية
العتيقة، المليئة بالمخطوطات النَّفيسة، ويرجع تاريخُ تأسيسها إلى أوائل القرن
الثاني عشر، حين شيد علي بن يوسف بن تاشفين، ثاني ملوك الدَّولة المرابطية،
ومقعد قواعدها - الجامع الكبير بمراكش، وجعلت الخزانة العلميَّة بأحد مقاصيره،
وبعد المرحلة الصَّعبة التي قطعها جامع ابن يوسف وخزانته في عهد الموحدين،
الذين عملوا على طَمْس جميع آثار المرابطين - استعادت خزانة ابن يوسف مع الجامع
حياة نشيطة، وازدهرت بالخصوص مع الشرفاء السَّعديين الذين اتخذوا من مراكش
عاصمة لهم، وتنافسوا في تزويد الخزائن العلميَّة بحاضرتهم بمختلف المؤلفات
الثَّمينة القديمة والحديثة.
وأخيرًا: اعتنى الحسن الأول ببناء مركز جديد لخزانة ابن يوسف، ووضع ابنه
عبدالحفيظ عندما كان خليفة لأخيه السلطان عبدالعزيز بمراكش فهرسًا لهذه الخزانة
الجديدة سنة 1953، وجهزت بالوسائل اللاَّزمة إلى أن نقلت سنة 1960 إلى قصر "
الأكلاوي"، حيثُ ما تزال فيه حتى اليوم، ومخطوطاتها الباقية تناهز ألفي مخطوط،
بعضها قديم لا يوجد في غيرها من الخزائن المغربية والأجنبية.
وهكذا تبقى مؤسسات ابن يوسف منذ تأسيسها - وعلى رأسها الجامع الكبير - لها
الدَّور الكبير في الإشعاع العلمي والثقافي لمراكش، الذي تأرجح مجاله بالوضعية
السياسية للمغرب، فعندما كانت الحاضرة العاصمة المركزية امتَدَّ إلى مَجالات
قاريةٍ شاسعة، ثم تَحول الإشعاع إلى مُستوى إقليمي باضمحلال الإمبراطوريَّة
المغربيَّة، وفقدان مراكش مكانتها كعاصمة سياسية للبلاد، بَيْدَ أن جامع يوسف
ظلَّ على الدوام أحد المعالم العلميَّة والحضارية الشاهدة على عبقرية مؤسسيها
ومُشيديها، وظَلَّت على مَرِّ العصور تدافع عن تراثِ الإسلام واللُّغة العربية
في أقصى نقطة من غرب العالم الإسلامي، بتمسكها بالتعليم الأصيل تلقينًا
وتكوينًا، كما قدمت لنا نماذج من كفاح أساتذتها وطُلاَّبها في سبيل إحقاق الحق،
ضد الضلال والفساد، والعمل على نشر الخير والفضيلة، ونبذ ما يَمس القيم
الإسلامية والمبادئ الإنسانية، والدعوة إلى التربية الإسلامية بالقدوة والعمل
قبل القول.
*خاتمة*:
وفي كلمة أخيرة، يُمكن القول: إنَّ هذه المؤسسة لعبت دورًا رياديًّا في مجال
العلم والمعرفة، وكانت بذلك إحدى أشهر جوامع العالم الإسلامي صحبة للمسجد
النَّبوي، والحرم المكي، ومسجد قرطبة، وجامع الزيتونة.
وعليه؛ فيَحِقُّ لهذه المؤسسة أن تفخر بإنجابها لمختلف الأعلام العلمية،
وبدورها البطولي في مقاومة الاستعمار، وتحقيق الحرية والاستقلال.